مذكرات “عمي أحمد” رجل الشرطة المشهور
عد مرور أربعة عقود من الخدمة و التفاتي و الإخلاص في وظيفتي ، ارتقيت من خلالها في سلم المسؤوليات من القاعدة الى أعلى الرتب ، من عون بسيط من أعوان الأمن في بداية مشواري الى أن تدرجت لأرتقي الى رتبة محافظ الدائرة
لقد كنت منذ أن وعيت على الحياة و في رعيان الشباب بالخصوص مولعا و ومعجبا بمهنة الشرطي، وكان حلمي الوحيد الذي وودت أن أحققه آنذاك، هو أن أصبح يوما ما أحد رجالات هذا السلك أو أن أنخرط في صفوف الجيش، و أن أخوض التجربة لتحقيق مسار مهني، لقد كنت مدفوعا بدافعين اثنين ومنجذبا لسببن الى أن أخوض إحدى التجربتين.
فبخصوص الجيش، كنت مولعا مند الصغر برؤية الاستعراضات العسكرية، لقد كنت معجبا كثيرا بتلك المناظر لا سيما تلك الخطى التابثة لأفراد الجيش على وقع الموسيقى والانضباط الكبير الذي يميز سير الوحدات كما كنت أنبهر لرؤية أصحاب الرتب الكبيرة والنياشين.
أما فيما يتعلق بسلك الشرطة، فإنني كنت أحب رؤية أعوان الأمن المكلفين بتنظيم حركة المرور، لقد كنت معجبا أيضا بحركاتهم على مستوى محاور الطرق.
لذلك، وكلما كانت تتيح لي الفرصة، كنت أقوم دوما باستئجار دراجة من المرحوم مختار ناكوبي أو المرحوم الحاج، و قد كانا هؤلاء دراجان رياضيان في مدينة تيغنيف، لا تمكن من الاستمتاع و لو للحظات بمنظر و مشهد أعوان الأمن الذي كان يقوم بتنظيم حركة المرور على مستوى تقاطع الطرق الكائن على مستوى دار البلدية،كنت أستمتع بالمنظر و كانت متعتي أكبر حينما كنت ألوح بيدي عاليا ، لأشير للعون للوجهة التي أود أخذها أو الاتجاه الذي اسلكه ، ثم أترقبه و هو يرفع يده بدوره ليسمح لي بالمرور و يوقف كل من يأتي من الجهة المعاكسة.
شخصيا ، أنحدر من عائلة متواضعة متكونة من ست اخوة و ستة أخوات ، و كانت العائلة تقطن في إحدى المنازل في بلدة صغيرة كانت تعرف في تلك الفترة “باليكاو” و حاليا أضحت تعرف باسم “تيغنيف” و هي تقع على بعد 20 كلم من مدينة معسكر .
رحلتي مع التعليم
التحقت بالتعليم الابتدائي بمدرسة الذكور في سن السادسة و لا أزال أتذكر جيدا أول يوم التحقت فيه بالمدرسة، يومها اصطحبني والدي .تستحضرني ذكريات حية من تلك الفترة، لا تزال ذاكرتي تحتفظ بشخصية مدير المدرسة ، لقد ظلت صورته راسخة في ذهني انه السيد شيفير من منطقة الألزاس المحاذية للحدود الفرنسية الألمانية ، كان شيفير رجلا شديد البأس صارما ، الى درجة أن الجميع سواء كانوا تلاميذا او أساتذة و معلمين كانوا يهابونه و يخشونه ، بل كان الأمر يصل لدى البعض منهم الى ارتجاف أجسادهم من الخوف بمجرد سماعهم صوته أو خطواته ، حينما يكون متجها الى أحد الأقسام الدراسية .
لقد أتيحت لي الفرصة خلال مدة تمدرسي بالطور الابتدائي للتعرف على عدد من الأساتذة الجزائريين ، أذكر من بينهم المرحوم صديقي ، بوصوف مختار الذي اغتيل من قبل جيش الاحتلال ، الى جانب بركاني ، بالإضافة الى أساتذة أوروبيين من أمثال السادة سولار و بيتان هنري و غيرهم……
حينما بلغت السن الثانية عشرة، حاولت خوض امتحان السنة السادسة ، كان ذلك في مدينة معسكر، لقد كنا 12 مترشحا لنيل الشهادة من مدينة بوليكاو و لم يظفر بالشهادة في نهاية المطاف سوى ثلاثة هم بارجي فرانسيس ابن رقيب الجمارك وويلد هنري ابن موثق المدينة و أنا ، و بفضل هذا النجاح تمكنت من الالتحاق بثانوية معسكر ، و تم توجيهي الى القسم الكلاسيكي ، و تتلمذت حينها على أيدي عدد من الأساتذة أذكر من بينهم “السيدة برازيلي في مادة اللغة الفرنسية و اللاتينية ، و الآنسة جيميني في مادة الرياضيات و السادة دوانيش و دودي بالنسبة لمادتي التاريخ و الجغرافيا ، الى جانب السيد غرمالا عبد القادر في مادة اللغة العربية و السيد شوزنو فيما يخص التربية البدنية ” أما مدير الثانوية فقد كان من جزيرة مارتينيك اسمه السيد روكايو ، فيما كان اسم المراقب السيد نويل .
حينما انتقلت الى السنة الخامسة و الأقسام التالية تعرفت على أساتذة آخرين من أمثال السيد طاهر أستاذ اللغة العربية و السيد بويعقوب أستاذ مادة الفيزياء و السيد بن عمور أستاذ اللغة الفرنسية ، أما ف أوساط زملائي فانني احتفظ بذكرى البعض منهم ، و هم زملاء الدراسة أذكر منهم الإخوة طاهر محمد و جمال و الإخوة حنطاز و غوادمي رشيد الذي أنهى مشواره كأستاذ متخصص في المعالجة بالأشعة بمركز بيار و ماري كوري بالعاصمة ، و قد توفي اثر حادث مؤسف بعد أن صدمته حافلة لمؤسسة النقل الحضري بالعاصمة في احد أيام شهر رمضان المعظم ، كما أحتفظ بأسماء بويعقوب ابن أستاذ مادة الفيزياء و جاكر جلال و درغال و برحال الذي انتهى به المطاف كموظف في مصالح الجباية و الضرائب و هو متوفي الى جانب شعلا حمزة و خنان ماحي و هو لاعب سابق في فريق غالي معسكر و تابتي و هو عين واليا سابقا للمدية ، و بختي المكنى بتوتو و مسلم سعيد مولاسردوم الى آخره.
و من بين الذين كانوا يكبروننا سنا و زاولوا الدراسة في الأقسام العليا أتذكر الإخوة علاب و قاضي عبد الطيف و بوشنتوف و خلادي حبيب و مختار غلول و بوجلال وولد قابلية و غيرهم .
لم يسعفني الحظ لأكمل مشواري الدراسي، فقط فرضت علينا ظروف خاصة حالت دون تحقيق ذلك، فقد حرمت من من منحة الدراسة التي كانت ستمكنني من الاستفادة من النظام الداخلي ، مما اضطرني الى اللجوء الى أحد أقاربي وهاب جيلالي الذي آواني ، لكنني تخليت عن الدراسة مرغما ، في وقت بدأت تلوح في الأفق بوادر إضراب الثمانية أيام التي دعت إليها جبهة التحرير الوطني ، حينها قررت التوجه الى عمي للعمل و قد كان يمتهن التجارة و البيع بالجملة ، و لكنني عانيت كثيرا في تلك الفترة نظرا للضغوط التي كانت تمارس على عمي الذي كان معروفا في مدينة بوليكاو بنضاله ووطنيته وقد واجهنا فترات صعبة بسبب ذلك، حيث تم توقيفنا مرات عديدة و استدعينا من قبل الدرك و الشرطة و الجيش الفرنسي بدعوى الاشتباه في قيامنا بتموين المجاهدين و تزويدهم بالمؤن ، طالما كنا في موضع شبهة فإننا تعرضنا للاعتقال و التوقيف في أية حادثة تشهدها مدينة بوليكاو أو في المنطقة المحاذية بالنظر للصدى و البعد الذي اكتسبه اسم “بصوف” الذي اقترن أساسا باسم بوصوف ” في إشارة الى بوصوف عبد الحفيظ عضو الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية” ، بينما لم تكن تربطنا به أية صلة قرابة ، و بسبب ذلك تم اغتيال شقيقين لي من قبل الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير و اعتقال و سجن عمي مرتين كما تعرضت شخصيا للتوقيف مرات عديدة من قبل الشرطة الفرنسية .
لقد قتل شقيقي الذي كان يعمل تاجرا في تفصيل و خياطة الملابس لأنه كان يمول المجاهدين بالأحذية و الألبسة من أقمصة و سراويل ، أما الأخ الثاني الذي كان أخا غير شقيق في الواقع فانه كان يقطن خارج المدينة في إحدى القرى الصغيرة أو إحدى الدواوير كما يقال فانه اختفى مباشرة بعد خروجه من معتقل بوليكاو و لم نعثر له على أثر الى يومنا هذا ، إذ لم نتمكن من إيجاد قبره أو معرفة مكان دفنه أو المكان الذي اغتيل فيه .
أول خطواتي في سلك الشرطة
لا أريد أن أسترسل حول موضوع مشاركة عائلتي في حرب التحرير ، و عليه فإنني أفضل أن أمر الى فصل من فصول حياتي و يتعلق الأمر بمساري المهني في سلك الأمن الوطني أو الشرطة.
و بهذا الصدد ، تجدر بي الإشارة، بأنني كنت مولعا بارتداء الزي الرسمي أو البذلة الرسمية مند نعومة أظافري و من صغري، وحينما أتيحت لي الفرصة لذلك لم أتردد للحظة حيث انخرطت مباشرة و قبل ترشحي ، و عليه انضممت الى سلك الشرطة في تاريخ 1962 .
وبرفقة عدد من العناصر الذي اختاروا هذا المسار طواعية وكانوا في غالبيتهم من قدماء الفدائيين أو المسبلين فإننا عكفنا على تكوين الرعيل الأول و المجموعات الأولى للشرطة الجزائرية بمدينة معسكر لقد استفدنا من تأطير عدد من أعوان الشرطة القدماء على رأسهم ضابط حفظ الأمن الرئيسي مغسداد حبيب، لتشكيل الفرق الأولى و ضمان استمرارية سير المصالح ، وقد أسندت مهمة الإشراف على الأمن الحضري الى المرحوم بلغور حمزة و قد شملت في عهده مهام الشرطة القضائية والشرطة العامة و تشكل فريق متكون من كل من عيد مختار رئيس الاستعلامات العامة، والكورث يوسف رئيس الدائرة الأولى وفاطمي أحمد رئيسIDJ و براح محمد الذي عوض فيما بعد من قبل مكيوي الحاج على رأس السلك الحضري.
وفيما يخصني، بدأت مشواري كما أسلفت سابقا في فرق السلك الحضري و بعد شهور عديدة من الممارسة والعمل، أثرت انتباه واهتمام مغسداد حبيب الذي كان بمثابة المحافظ المركزي وقد قرر هذا الأخير تحويلي إلى مستوى كتابته.
كنت مهتما و متقنا لعملي الذي أحببته، إذ عملت بجد وتفاني واستطعت أن أكون نفسي و أن أساهم في العمل في كافة المصالح الخاصة بحفظ الأمن والنظام، خاصة فيما يخص تغطية مباريات كرة القدم ، فمعسكر آنذاك كانت من بين الفرق الكبيرة في المنطقة الغربية وكان الفريق يلعب في القسم الشرفي مع مولودية وهران و وداد تلمسان و الاتحاد الرياضي لبلعباس ومولودية سعيدة وجيل تيارت إضافة الى ترجي مستغانم، الخ…
وكانت مبارياته تجلب العديد من المناصرين والمشجعين خاصة، إذا كانت المباراة تجمعهم بإحدى الفرق المذكورة آنفا، وكانت المباراة تشهد و تتخللها مشادات بين الأنصار و إخلال بالنظام العام، وأتذكر أنه خلال احدى المباريات التي جمعت معسكر بمولودية وهران، وجدنا صعوبة كبيرة لإخراج الفريق الوهراني من الملعب، إلى جانب الحكم الراحل بنزلات الى غاية منتصف الليل، ومن خلال مثل هذه المباريات الساخنة، استطعت تعلم الكثير وكسب خبرة كبيرة في كيفية تسيير الأمور والتعامل مع مثل هذه الأوضاع الصعبة خاصة وأنني كنت مهتما كثيرا بكيفية تسيير و تغطية مباريات كرة القدم.