إطارات ورجال أعمال يرمون أمهاتهم في دور العجزة

“بهيـــة” قصة امـرأة حـولتـهـا الظـروف القاهـرة ووحـشـيــة والـدهـا إلى رجــل بجـســد أنــثــى
خالتي لويزة قصة قابلة وزوجة إطار في الجمارك نبـذهـا أولادهـا وشـردهـا زوجـهـا
المقـيـمــات يـرفـعــن شـعـار:«رانـا مــلاح مـاخـصـنـــا والــو.. غـــير طـلــة ولادنـــا»
“…ما نسمحش لأولادي لا دنيا ولا آخرة”، “أبي تعدى علي ورماني إلى الشارع”، “راني خايفة نموت وما نشوفش والديا”، هي آهات وصرخات صامتة لمن جعل الله الجنة تحت أقدامهن، أمهات أفنين حياتهن لخدمة فلذات أكبادهن، ليكون جزاؤهن ديار العجزة والمسنين، نساء ورجال تجردوا من إنسانيتهم بسبب “مرتي حبت تعيش وحدها”، “راجلي يتقلق من يما” و”ماعنديش الوسع في الدار”، لتبقى الأمهات ينتظرن الموت البطيء متشبثين بوعود “قريب نجي نديك للدار”. لن يكون سهلا على الواحد منا قضاء شهر رمضان بعيدا عن العائلة، فما بالك بأمهات يقضين ما تبقى من حياتهن داخل دار المسنين والعجزة، بسبب ابن عاق وجاحد لأغلى نعمة أوصى بها الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم، هن أمهات حرمن من دفء العائلة قد تختلف قصصهن لكنهن يشتركن في مكان واحد هو دور العجزة، فمنهن من كانت ضحية ابن عاق، ومنهن من وجدت نفسها وحيدة يتيمة «لا حبيب ولا قريب»،..هي قصص وروايات تُنطق الحجر، أبطالها ليسوا أشباحا من صنع الخيال، وإنما بشر من لحم ودم تجردوا من إنسانيتهم من دون سابق إنذار.»النهار» زارت مركز العجزة والمسنين في دالي إبراهيم، وشاركتهم مائدة الإفطار، وخلال ساعات كانت كفيلة بنقل معاناة هؤلاء النسوة، رغم أنهن يحظين برعاية جيدة من مسؤولي المركز، إلا أن جميعهن تتقن لحنان زائر يسأل عن حالهن، فنظراتهن المخطوطة بالبؤس والحرمان، تترجم ما تخفين في صدورهم، على الرغم من ألمهن وحزنهن الدفين، استقبلونا بحفاوة جلسنا بقربهن وحاولنا استنطاق أجسادهم الثقيلة وابتسامتهم المزيفة.
»بهية» قصة امرأة حولتها الظروف القاهرة ووحشية والدها إلى رجل بجسد أنثى
عندما يتحول الأب إلى وحش بشري ويعتدي على فلذة كبده عوض المحافظة على شرف ابنته، فالنتيجة حتما ستكون الشارع، هي قصة فتاة في 38 سنة، عندما رأيناها لأول وهلة اعتقدنا أنها رجل بسبب قصة شعرها وملابسها وحتى ملامحها القاسية، لم تتردد في التحدث معنا وسرد قصتها المؤلمة، بعد أن كانت في يوم من الأيام تعيش حياة طبيعة برفقة عائلتها، إلا أن قسوة والدها الذي كان يضربها، وفي سن 18 هربت «بهية» من البيت ولم تجد إلا الشارع الذي لم يرحمها هو الآخر، تقول بكل أسف:«لم أجد من يأويني، كنت فتاة عادية لكن قسوة الشارع أجبرتني أن أصبح رجلا بجسد أنثى، اضطررت لفعل أي شيء من أجل الحصول على قوت يومي، اليوم أنا هنا في دار المسنين، لا أملك أحدا سوى ابنتي «رانية»، رغم أنها عند عائلة تتكفل بها، إلا أنها كل حياتي»، كانت بهية تحدثنا وصورة ابنتها غير الشرعية لا تفارقها، على أمل أن يجمعها بها القدر تحت سقف واحد يوما ما.
… أنا بنت العز بصح الدنيا غدرتني وأمنيتي الوحيدة نشوف والديا قبل ما نموت
»عاونوني باش نلقى والديا» هي صرخة امرأة أخرى كفيفة، كانت جالسة بأحد الغرف التي تبدو مرتبة ونظيفة، استئذنتنا قبل الحديث من أجل أداء صلاة المغرب، بعد أن قاسمناها مائدة الإفطار، كانت رائحتها العطرة تعم المكان، وكانت ترتدي «جبّة» زرقاء مزركشة مع خمار متناسق الألوان، روت لنا قصتها قائلة: «كنت أعيش في أحضان عائلة ثرية منحتني كل ما حلمت فيه، بعد أن تخلت عني والدتي لأسباب لا أعلمها، وبعد وفاة مربيتي أخذتني ابنة الرجل الذي تبناني إلى فرنسا، بقيت هناك لسنوات، لكن حنيني لوالدتي الحقيقية دفعني إلى العودة للجزائر للبحث عنها، وهنا بدأت معاناتي، أدعو الله كل يوم في صلاتي أن ألتقي بأمي قبل أن أموت ساعدوني لوجه ربي..».
خالتي لويزة قصة قابلة وزوجة إطار في الجمارك نبذها أولادها وشردها زوجها
في غرفة ذات ديكور جميل، كانت تجلس الحاجة «لويزة»، أقدم مقيمة بدار العجزة في دالي إبراهيم منذ أكثر من 23 سنة، امرأة هادئة راقية على قدر كبير من الثقافة تتكلم باللغة الفرنسية السليمة، كانت تشتغل كقابلة بأحد المستشفيات وزوجة إطار سامي في المديرية العامة للجمارك، هذا لم يشفع لها أن تضمن مستقبلها وتكمل بقية حياتها في العز والرفاهية الذي كانت تعيش فيه، لكن حياتها انقلبت رأسا على عقب بعد أن تخلى عنها أولادها «سهام ووسيلة وشوقي»، وعاود شريك حياتها الزواج بامرأة أخرى، تاركا إياها في الشارع فلم تجد مكانا يأويها غير دار المسنين، تروي معاناتها قائلة: «إبني تركني رغم أنه وعدني بأنه سيعود ليأخذني وأعيش معه كنت انتظره يوميا في الفناء الخارجي للمركز، لكنه كذب علي، رغم نداءاتي عبر شاشات التلفزيون، إلا أن مشاعره القاسية أعمت بصيرته»، وختمت كلامها قائلة» لن أسامحه، يحشم بيا، ليس لدي إبني أنتم أبنائي، الحمد لله مديرة دار المسنين منحتني فرصة زيارة بيت الله مرتين ويكفيني فخرا أنني لمست الكعبة الشريفة قبل أن أموت».
مرشح سابق للرئاسيات… رجال أعمال ومسؤولون يحنون على العجزة والمسنين المنسيين
وخلال زيارتنا إلى دار العجزة والمسنين في دالي إبراهيم وهو المركز الذي يقدم خدمات جد عالية للمقيمين، رافقنا مديرة المركز التي استقبلتنا بكل حفاوة برفقة طاقم الإدارة وعرفتنا بكل أقسام المركز بدءا بقاعة الرياضية والحديقة، ثم الفناء الخارجي وحتى الغرف التي كانت مجهزة بكل ضروريات الحياة، على غرار المكيفات الهوائية وأجهزة التلفزيون والثلاجات، وبعدها توجهنا إلى المطبخ ووقفنا على تحضيرات مائدة الإفطار ودخلنا إلى المخزن الرئيسي، حيث كشف لنا مدير المخزن أن أغلب التبرعات خلال شهر رمضان، هي من مسؤولين ورجال الأعمال، وحتى رئيس حكومة سابق، لا يتوانون في التبرع بمواد غذائية على غرار المشروبات والعصائر والأجبان واللحوم لصالح المقيمين.
مديرة دار العجزة والمسنين في دالي إبراهيم لـ«النهار»:« المقيمات يلقين أحسن عناية إلا أن حنين ودفئ العائلة لا يعوض»
من جهتها، كشفت مديرة دار العجزة والمسنين في دالي إبراهيم بلحي نعيمة لـ«النهار»، أن المركز يحتوي على 78 مقيمة بقدرة استيعاب تصل إلى 100 شخص، تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 97 سنة، 80 من المائة منهم مصابون بأمراض عقلية و10 من المائة منهم في صحة جيدة، بينما يعاني 5 من المائة منهم من تخلف عقلي، ورغم ذلك أكدت المديرة أنه ورغم المرض، فإنهم يصرون على الصيام، ويشرف على هؤلاء طبيب المركز وطبيب نفساني آخر يقوم بالكشف عن المقيمين مرة في الأسبوع. وأضافت المتحدثة، أن 20٪ من الموجودين في المركز هم أشخاص من دون مأوى، و15٪ منهم تخلوا عنهم أولياؤهم داخل المستشفيات، فيما يوجد أكثر من 5٪ ممن تخلوا عنهم أبنائهم رغم النداءات المتكررة عبر وسائل الإعلام.