إعــــلانات

الجانب المشرق في مدننا الصغيرة.. ورشة لصناعة الذكريات الجميلة

الجانب المشرق في مدننا الصغيرة.. ورشة لصناعة الذكريات الجميلة

لا زلت أتذكر مقولة همس بها صديق لي وأنا أتجول في «مدينة السور»: «إننا نتمشى فوق سطح مدينة جديدة، وأن المدينة القديمة الرومانية الحقيقية، رُدمت تحت الأنقاض بفعل الظروف المناخية طيلة قرون».. هذه المدينة الغريبة وذات الخصوصيات الحادة، قلّما ينتبه لها الزائر في أول وهلة، فهي هادئة هدوء مناطق الثلج، وتحيط بها من كل الاتجاهات، وقليلا ما تسمع فيها ضجيج المركبات أو وسائل أخرى، وكأنك في منتجع محروس.

النوميديون الذين سكنوها، كانوا يطلقون عليها اسم «أوزيا»، وحدث تاريخيا أن حطت بها الرحال جيوش الرومان، فينضم إليها فارسهم الشجاع «تاكفاريناس»، ثم سرعان ما يكتشف بشاعة وبطش الرومان، فيتمرد على جيوشهم، ويشكّل فيلقا حرا لمحاربتهم، إلى غاية أن يلقى حتفه في هذه المدينة ويدفن فيها، كما تقول المصادر التاريخية.

الشيء الجميل الذي أحفظه لهذه المدينة، هي أنها كانت مدينة الطب، بفضل مستشفاها العريق الذي كان سنوات السبعينات بمثابة «باريس» التي نحجّ إليها، زيادة على حب أغلب شبابها الجامعي المتعلق بالمسائل العلمية، مقارنة بعدد مثقفيها المعرّبين.

مكثت في طفولتي  وأنا في السن الخامسة مدة أربعة أشهر أعالج خللا على مستوى العظام، وقد سُجلت في ذاكرتي عدة أشياء، خاصة شوارعها الهادئة النظيفة، وحليب البقر الذي كنت أتسلّمه من أحد الباعة المتجولين أمام بيت إحدى القريبات «مباركة» رحمها الله.

بعد سنوات عدت إليها عن طريق دعوة لمهرجانها الشعري، وتعرفت أيام المهرجان على أشياء كثيرة، منها سكانها الطيبون وطرق تعاملهم العصرية، نساؤها الجميلات وبشاشتهن الدائمة، بل حفظنا معلومة بأنه لا أحد ينافس «الصوريات» في صناعة الحلوى، وكأن بالجمال  الخالص ـ أي الصافي من دون مساحيق ـ ولعلهن اكتسبن ذلك بفضل توارث تاريخي يمتد حتى الحقبة الرومانية.

زميل طاف بي المدينة ودلّني على بيوت ضيّقة، وكأنها أنفاق، فقد كانت معاقل للمجاهدين الأبطال، حيث أنجبت الكثير من البواسل الذين ضحوا بالنفس والنفيس، في مدينة سماها الفرنسيون «أومال» نسبة للدوق «أومال»، ابن آخر ملوك فرنسا «فيليب الأول».

لقد مكثت في المهرجان ستة أيام، وكانت الدعوات لا تنتهي، الجميع تلقى برنامج المحاضرات والحفلات بصدر رحب، حتى فئة الملتحين الذين كانوا يحملون في أذهانهم الإسلام المعاصر وليس المتشدد، كنت أتناقش مع أغلبهم بكل أريحية وديمقراطية مطلقة، وأعجبني في هذه الفئة أنهم يطالعون ويسألون دوما، وليست لديهم عقدة في حرية المرأة مثلا؛ فهي موجودة في جميع المصالح.

وحسب استنتاجاتي، فهي العمود الفقري داخل الأسرة، وهو كذلك، فلا حرج أن يحدث التعامل معها بشكل إنساني، وقد تعلّمت شيئا مهما في هذه المدينة، وهو احترام المرأة، رغما عن أنوفنا، فهي فعلا مدرسة، بعيدا عن نظرة بعض المجتمعات المتزمتة، الذين يروا عكس هذا.

كانت الأروقة الجزائرية بداية الثمانينات وحتى التسعينات بمثابة «البازارات» الأوروبية التي نتسوق فيها، في هذه المدينة مسجد عريق وسط المدينة، كان فيما مضى كاتدرائية مسيحية أيام الاستعمار، وبها مكتبة ملتصقة بمقهى، تضم أروع الكتب في شتى المجالات، وبها محلات راقية وعصرية للعطور العالمية وقداحات لـ«البورجوازيين»، وكثير من السلع المستوردة.

لم أشعر فيها ولو مرة بالملل، على الرغم من صغر حجمها، وربما هو الثقل التاريخي الذي ما تزال شواهده قائمة، ولا زالت الكتب عنه تروي.

وقد حدثني محدث أن معظم كوادرها وعقولها النوابغ الذين غادروا نحو وجهات متفرقة، لكن رغم ذلك، لا يزال مفعول التاريخ قائما وحيّا كالقلب ينبض، وما زالت «سور الغزلان» مضربا للحضارة والتحضّر في عقولنا، وما ثانوية الغزالي إلا إحدى القلاع التي نبتت فيها أظافر شخصيات مرموقة وطنيا وعالميا، وما زالت هذه المدينة محبوبة وصامدة، رغم كل النكسات التي مرّ بها هذا الوطن الشاسع، وستظل ورشة لصناعة الذكريات الجميلة والحميمية.

رابط دائم : https://nhar.tv/QwaYp
إعــــلانات
إعــــلانات