الشـاذلي بن جـديــد أول سجين في عهـد الاستقــلال

ثمّة في الحياة مفارقات يصعب تفسيرها أو تصديقها، وإنما يقبلها المرء كما هي، فأنا لم أدخل السجن الاستعماري، رغم أن السلطات الفرنسية حكمت عليّ غيابيا بالإعدام مرارا، ووجدت نفسي في المقابل، سجينا في عهد الاستقلال، شهر وربما أكثر، قضيته في أثون الاعتقال، وكأنه عمر طويل وللسجن، كما هو معروف، مساوئ وفوائد، أما بالنسبة إلي ورغم ما عانيته معنويا وجسدبا، فإن هذه التجربة المؤلمة جعلتني أقتنع بفكرة فرعونية قديمة، وهي أن الإنسان يخطّط والقدر يسخر منه.والحقيقة، أني كنت دائما أتفادى الحديث عن هذه المحنة التي ألمت بي، ونحن على أعتاب النصر لكن، ورغم محاولاتي نسيان ما حدث، إلا أن صور ذلك ما فتئت تلاحق ذاكرتي إلى اليوم ويحدث لي أحيانا أن أطرح سؤالا بريئا على الأصدقاء :”من هو أول سجين في عهد الاستقلال؟ فيستغربون سؤالي، إنه ببساطة الشاذلي بن جديد والقصة أرويها من دون مبالغة أو ادّعاء.. كنت أول ظابط يدخل التراب الوطني قبل وقف إطلاق النار بأيام قليلة، وكانت الثورة آنداك تمر بمرحلة عصيبة ومفتوحة على كل الاحتمالات وكنا نحن الضباط، ننتظر الإعلان عن نتائج الطور الأخير من مفاوضات إيفيان بفارغ الصبر، كانت الطريقة التي تجري بها اللقاءات ثثير مخاوفنا، وأدّت المواقف المتضاربة بشأنها إلى تأزيم العلاقة بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان أكثر فأكثر، وأوصلتها تقريبا إلى طريق مسدود.ولم يكن يمرّ يوم إلا ليشهد تصعيدا في لهجة التّهم المتبادلة وحرب البيانات، ولم يعد الرجوع إلى الوراء وتقديم التنازلات بالنسبة إلى قيادة الأركان ممكنا، في ظل الغليان السائد في صفوف الجيش وتنامي الأمزجة المعادية للطريقة التي يتم بها التفاوض والإعتراض على بعض بنود الاتفاقية التي اعتبرناها تعدّيا صارخا على مكاسب سبع سنوات من الكفاح، مثل التنازل لصالح فرنسا على قواعد عسكرية في مرسى الكبير وعين بكر وشروط التعاون مع المحتلّ السابق، ووضعية الأقلية الأوروبية والمزايا الممنوحة لها..في تلك الفترة كثّفت قيادة الأركان ابتداء من مطلع شهر فيفري؛ حملتها التحسيسية في صفوف جيش الحدود بمخاطر الاتفاقيات ونتائجها الوخيمة على مستقبل البلاد، وكانت تلك الحملة مدروسة بدقّة وفق استراتيجية تهدف إلى تقديم الحكومة المؤقتة في صورة المتخاذل، وفي نفس الوقت تعرية الأطماع الاستعمارية الجديدة للأوساط الحاكمة في فرنسا، وبالموازاة مع ذلك، لم تتوقف الفيالق المرابطة على طول الحدود عن مهاجمة الخطوط المكهربة؛ وكان ذلك رسالة واضحة لفرنسا وللحكومة المؤقتة في الوقت نفسه أنه لا يمكن لأي شيء أن يتم دون الجيش أو على حسابه.ولعلّ من الخطأ الاعتقاد كما هو شائع عند بعض المؤرخين، أن معارضتنا لاتفاقيات إيفيان هي مسألة خصومة بين شخصية بومدين وبن يوسف بن خدة، فهذا الأخير زارنا في المنطقة الشمالية للعمليات وأحسنّا استقباله كرئيس حكومة، رغم اختلافنا معه في النظرة إلى مستقبل البلاد، كما زارنا أيضا عبد الحفيظ بوصوف سريا لجس النبض، ورافقته في جولة تفتيشية لوحدات المنطقة الشمالية وتظاهرت بأني لا أعرفه، ومعارضتنا ليست أيضا تكتيكا تبنّته قيادة الأركان للوصول إلى الحكم، صحيح أن بومدين أحسن استغلال وتوظيف الخلاف حول هذه النقطة، ورفض إرسال ممثل عن قيادة الأركان إلى إيفيان وامتنع عن التصويت على وقف إطلاق النار رغم مصادقة المجلس الوطني للثورة التحريرية على نص الاتفاقية وموافقة السجناء الخمسة.
المستقبل هو ملك لمن حمل السلاح وليس لمن يتاجر بقضية الشعب في صالونات تونس أو في ”حريم” الحكومة المؤقتة
لقد كان موقف قيادة الأركان في الواقع تعبيرا عن اتجاه سائد في صفوف الجيش الذي كان قادته يؤاخذون على الوفد الجزائري المفاوض تجاهله لحقائق الميدان، كان أغلبنا مؤمنا، حقا، أن المستقبل هو ملك لمن حمل السلاح وليس لمن يتاجر بقضية الشعب في صالونات تونس أو في ”حريم” الحكومة المؤقتة، وإذا كان التاريخ علمنا أن الثورات يقوم بها صنفان من الناس من يفجرها ومن يجني ثمارها، فقد كنا نحن ضد هذا المنطق، إلا أنه و الحق يقال، فرغم الغليان السائد آنذاك في صفوف فيالق القيادة العامة، فإن الجنود لم يكونوا يخفون ابتهاجهم بقرب نهاية الحرب، لقد عانوا بالفعل، من ويلاتها واكتووا بنارها وتعبوا من مآسيها، وكان أملهم الوحيد هو لقاء أهلهم وذويهم في أقرب وقت، ولن أنسى، ما نسيت، بعض جنودي يبكون من الفرح والحيرة في آن واحد، كنت أقرأ في عيونهم بصيص أمل مشوبا بقلق خفي، مصدره عجزهم عن فهم الصراعات والتناقضات التي تعصف بصفوف الثورة، وهي على وشك تحقيق أهدافها كانت أسئلتهم ملّحة ومعذبة بخصوص مستقبلهم ومستقبل بلدهم، وكنا نحن الضباط نتفادى قدر استطاعتنا الإجابة عنها إدراكا منا لغموض وخطورة الوضعية التي نعيشها. كنا نحن قادة المنطقتين الشمالية والجنوبية متخوّفون من المرحلة الانتقالية التي كان من المفروض أن تدوم ستة أشهر، ومن انعدام ضمانات ملموسة حول انسحاب الجيش الفرنسي، الذي بلغ تعداده آنداك 800 ألف جندي، وما كان يثير شكوكنا أكثر هو القوة المحلية التي كان البعض يسعى إلى أن يجعل منها بديلا لجيش التحرير الوطني، كان أغلب أفراد هذه القوة الهجينة ممن حملوا السلاح ضد المجاهدين وكنا نعتبرها استمرارا لدفعة لاكوست ورأس حربة للإجهاز على الثورة، ولم نكن كذلك نثق في الجهاز التنفيذي المؤقت الذي يرأسه عبد الرحمن فارس، كانت مسألة إطلاق سراحه من قبل الجنرال ديغول عشية التوقيع على اتفاقيات إيفيان وعلاقته الوثيقة به تثير الكثير من الشكوك والتساؤلات. كرّسنا جهودنا في ذلك الوقت لتوعية الجنود بضرورة الالتفاف حول قيادة الأركان في صراعها مع الحكومة المؤقتة وتأييد مطالبها برفض نزع سلاح الجيش وضرورة الإسراع في دخوله في أقرب وقت إلى التراب الوطني.ومن أهم القضايا التي طرحت في ذلك الوقت وأخطرها مصير جيش التحرير الوطني، هل يحل كما كانت تطالب به فرنسا وبعض الدوائر المشبوهة بارتباطها بالاستعمار ؟، هل يعوّض بالقوة المحلية المشكلة في أغلبها من عناصر مناوئة للمجاهدين والتي طرحت آنداك كبديل لضمان الأمن خلال المرحلة الانتقالية؟، وما مصير أفراد هذا الجيش الذين قدّموا تضحيات جسام في سبيل حرية الوطن؟، هل يشكرون على ما بذلوا ويقال لهم عودوا من حيث جئتم ؟، وكيف تحلّ مشكلة السلاح ؟، هل يعقل أن تصفّى هذه القوى الضاربة بجرّة قلم إرضاء لمطامع سياسوية دنيئة، بعد أن رفضت نفسها في الميدان بفضل تجربتها القتالية العالية وتماسك أفرادها وانظباطاتهم؟. هذه الأسئلة كثيرا ما أرقت الجنود أكثر من الضباط، كان موقفنا واضحا وصارما لا يقبل النقاش وهو رفض المساومة والابتزاز لأن تجريد الجيش من سلاحه يعني بالنسبة إلينا فتح الباب على مصراعيه أمام تصفية الحسابات وإذكاء الروح الانتقامية عند من كانوا يخجلون من ماضيهم من عملاء فرنسا وأذنابها في الجزائر، ولذلك اتّخدت قيادة الأركان العامة موقفا حازما في هذه المسألة لا يمكن للجيش أن يدخل التراب الوطني مثله مثل اللاجئين، لقد كانت نظرتنا إلى دور الجيش مستقبلا تختلف عن نظرة الحكومة المؤقتة وفضلا عن ذلك كانت القضية قضية شرف، وكان بومدين ومنجلي يذكران باستمرار في اجتماعاتهما معنا بما حدث للجيش المغربي والتونسي بعد الاستقلال، لقد نزع من أفرادهما السلاح وكان مصيرهم التهميش والاقصاء ونكران الجميل وكان مصير الجنود التونسيين والمغربيين يحيلنا على إحساس بالمرارة والحسرة لو أصابنا لا قدّر الله ما أصابهم.في 18 مارس أعلن بن يوسف بن خدة في خطاب إذاعي من تونس عن حصول اتفاق عام في إيفيان وطالب باسم الحكومة المؤقتة بوقف كل العمليات العسكرية في كل التراب الجزائري؛ ابتداء من يوم الاثنين 19 مارس في منتصف النهار، كانت فرحة الشعب في المدن والقرى عارمة واستبشر الجنود بالخبر مطلقين النار في الهواء، إلا أن الأخبار التي كنا نسمعها في الراديو لم تكن تبعث على التفاؤل، كان المسؤولون في الداخل خصوصا يتسابقون على احتلال المواقع التي تؤهلهم للاستحواذ على السلطة وبلغ الأمر ببعضهم حد دعوة الجنود إلى الالتحاق بولاياتهم الأصلية، إنه ”الويلايزم” أي الجهوية الذي أعتقد أننا طوينا صفحته إلى الأبد، وفي أبشع صوره، لكن الفيالق المتواجدة على الحدود حافظت على الانضباط والتماسك والالتفاف حول قيادتها.وبالإضافة إلى تفاقم الأزمة بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان أخدت الفظائع التي كانت ترتكبها المنظمة المسلحة السرية التي رفضت اتفاقيات إيفيان جملة وتفصيلا في اتّساع، خاصة في العاصمة وعنابة ووهران، منذرة بأن دوامة العنف والإرهاب لن تتوقف قريبا، وما كان يثير قلقنا أكثر هو تواطؤ السكان الأوروبيين وقسم من قيادة الجيش الفرنسي مع هذه المنظمة الإرهابية، كانت الحرب الأهلية تطرق الأبواب وكنا حريصين على تفاديها مهما كلفنا ذلك من ثمن.كان بومدين يشق طريقه نحو السلطة بهدوء وصمت، لكنه كان يدرك جيدا أنه ليس معروفا كرجل سياسي ولا يتمتّع بالدعم الكافي في الولايات الداخلية، لذلك أخذ يبحث عن ”رجله” وكانت التحالفات تعقد وينفرط عقدها بين ليلة وضحاها، تحالف بومدين مع بن بلة وخيضر لضمان غطاء سياسي للجيش، وكنا نحن ضباط الجيش نعرف أنه أجرى اتصالات بالسجناء الخمسة في قصر ”أولنوي” وعرض عليهم تصوره للخروج من الأزمة باقتراحه إنشاء مكتب سياسي وتقديم برنامج لما بعد الاستقلال، ولعب بومدين على التناقضات بين السجناء وعلى إذكاء الخلافات الشخصية بينهم واختار التحالف مع بن بلة لأن محمد بوضياف رفض أن يكون تحت رحمة العسكر كما قال.
فـي استقبـــال السجنـــاء الخــمسة
بعد وقف إطلاق النار أفرجت السلطات الفرنسية عن المساجين الخمسة،بن بلة،بوضياف، آيت أحمد،خيضر و بيطاطا،و فقا لما نصت عليه اتفاقيات ايفيان.و قاموا بجولة الى المغرب،ثم مصر،و أخيرا تونس،و كنت من الضباط الذين رافقوا هوراي بومدين و اعضاء من قيادة الاركان لاسقبالهم في مطار تونس يوم 14 أفريل 1962لاحظنا غياب بوضياف و طام ذلك مؤشرا على الخلافات بين السجناء التي لم تكن على أية حال،خافية على احد بل تفاقمت قبيل الاستقلال،يتفادون الحديث الى بعضهم بعضا،و رغم ذلك،فقد كان ذلك اليوم عرسا حقيقيا بالينسبة الى الضباط و بعض اعضاء الحكومة و اللاجئين الجزائريين الذين استقبلوهم بحفاوة كبيرة،و قد ألهب بن بلة عواطف المستقلبين بمخاطبته من على المنصة في المطار للرئيس الحبيب بورقيبة”نحن عرب،نحن عرب،نحن عرب”.انتفض بورقيبة بعد سماعه هذه العبارة التي أثارت حفيظته،و هم بالنزول من المنصة،لقد كان تصوره للعروبة مختلفا،فقد فهم من عبارة بن بلة ان هذا الاخير يلمح الى تحالفه مع عبد الناصر على حسابه،خصوصا و أنه قدم الى تونس من القاهرة ،و كان الخلاف بين عبد الناصر و بورقيبة حول الموقف من الثورة الجزائرية و القضية الفلسطينية معورفا للجميع،لم يكن بورقيبة يرتاح الى بن بلة،و كان يفضل التعامل مع كريم بلقسام و بن خدة،و سيعترف لي بعد سنوات بعد ان اصبحت رئيسا للجمهورية انه لم يثق يوما في بن بلة،بعد ذلك نظم بومدين زيارة للسجناء الخمسة الى الوحدات القتالية في المنطقتين الشمالية و الجنوبية و كانت فرصة لهم للاطلاع على ما بلغه جيش التحرير من مستوى عال في التنظيم و الجاهزية للقتال و التحكم في الاسلحة المتطورة التي وصلتنا من البلدان الاشتراكية.في نهاية الشهر اتهمت قيادة الأركان الحكومة المؤقتة بالتقصير في فرض بنود اتفاقيات ايفيان بعد الاستفزازات التي قام بها الجيش الفرنسي في جبال بني صالح ضد وحدات من جيش التحرير،و أصدرت بيانا شديد اللهجة ضد الخروقات المتكررة للاتفاقية مهددة بالرد بقوة في حال استمرارها،و كرد فعل على التقارب بين بن بلة و قيادة الاركان قطعت الحكومة المؤقتة الامدادات و التموين على جيش الحدود و جمدت ميزانيته،و كان هذا خطأ فادحا،لان قيادة الاركان استغلت هذه الفرصة لاذكاء موجة السخط في اوساط الضباط و الجنود و من جهة أخرى،لم يكن لهذا القرار أي مفعول لانة قيادة الاركان اتخذت احتياطاتها، في المنطقتين الشمالية و الجنوبية و كان لها ما يكفي للاستمرار في تموين الوحدات من دون مساعدة الحكومة،و ارتكبت الحكومة المؤقتة خطأ فادحا آخر عندما طلبت من الحكومة التونسية منع وحدات جيش التحرير من عبور الحدود و الدخول الى التراب الفرنسي،و كاد هذا القرار ان يؤدي الى مواجهة مسلحة بيننا و بين الحرس الوطني التونسي.و في محاولة لتجاوز هذه الازمة اقترح بن بلة بتأييد من خيضر و بيطاطا،الدعوة الى عقد دورة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية،و بالفعل غقدت الدورة في 21 ماي و 28 منه في طرابلس في جو مشحون و وسط خلافات خطيرة بين الاجنحة المتصارعة على السلطة و معارضة الثلاثي كريم و بوصوف و بن طوبال.كنت قد طلبت الدخول الى التراب الوطني ،و في مثل هذه الاوضاع المشوبة بالغموض كلفني هواري بومدين بمهمة لدى قادة الولاية الثانية لاقناعهم بضرورة تجنب المواجهة و تفادي سفك الدماءو سلمني على منجلي كمية من السلاح هدية لقيادة الولاية الثانية.قبل أن أتوجه الى الولاية الثانية انتابني هاجس غريب،بأن شيئا ما سيحدث،و لم يفارقني ذلك الشعور طيلة المسيرة الى هناك و دعت اخي ضابط الصف عبد المالك و نزعت من يدي ساعتي و سلمتها له قائلا”لا ندري ما يخفيه لنا القدر” ،كمانت معي فصيلتان ،الاولى يقودها عبد القادر عبد اللاوي و كانت ستتوجه الى الجزء الشمالي من المنطقة بين الخطين ”الطارف،الزيتونة،عين الكرمة،بلاندان،و غرب القالة”و الثانية على راسها محمد الصالح بشيشي ستتمركز في ناحية حمام النبايل.عبرت من منقار البط bec de canard قطعت خط ”شال”قرب سوق اهراس ليلا تحت جسر بالقرب من السكة الحديدية و لم نجد صعوبة كبيرة في العبور بسبب تخفيف الحراسة بعد الشروع في تطبيق وقف اطلاق النار،و بيقت طوال اليوم في مركز بين الخطين،في المساء شاهدنا رتلا من الشاحنات يحمل جنودا و مجموعة من الحركى ربما أنهم كانوا يبحثون عنا بعد اكتشاف آثار عبورنا،و توقفوا بالقرب منا على بعد 300 متر بسبب عطب في الشاحنة لذلك كنا باستمرار في حالة استنفار تحسبا لاي طارئ ،لكن لم يحدث بيننا اي اشتباك،و في المساء قدك مسبلون من سوق اهراس ،رافقت مجموعة منهم فصيلة عبد اللاوي الى بني صالح و مجموعة أخرى بشيشي نحو حمام النبايل ،أما أنا فبقيت مع مناضلين دخلت معهم إلى سوق اهراس و في يوم الغد ذهبت لتفقد الفصيليتين. نجحت في المرور بلباس مدني محو بني صالح مع قايد يعرفه جنود اللفيف الاجنبي معرفة جيدة،أذكر اننا عبرنا الحاجز و كنت في سيارة جالسا الى جانب القايد،كان المسكين يرتعد خوفا،و كان يرتل القرآن و لم ينتبه الى امري جنود اللفيف الاجنبي و كانوا يرددون عليه التحية.قمت بتفتيش الفصيلة التي ارسلتها الى بني صالح،و كان صالح بوشقوف موجودا بين الخطين و أسندت الى عبد اللاوي الاشراف مع صالح بوشقوف على المنطقة الموجودة بين الخطين،و سلمت لهما كمية من المال بعدكا قضيت الليلة في حمام النبايل.كلفت عبد القادر عبد اللاوي بالاشراف على المنطقة الاولى الواقعة بين الخطين،و بوشقوف على المنطقة الثانية،و بشيشي على المنطقة الممتدة بين سوق اهراس و حمام النبايل،كانت المهمة هي تحضير دخول الجيش الى التراب الوطني.بعد ذلك،جاءني بطلب مني،مسؤول ناحية قالمة،و رافقني الى مركز قيادة الولاية الثانية،قضيت الليلة في المدينة في بيت شرطي جزائري يعرفه مناضلو قالمة،و رغم ذلك علمت فرنسا بتواجدي في قالمة،ذلك أن الاذاعة بثت في اليوم الموالي خبرا يقول ان نائب بن سالم دخل سوق اهراس متجها الى قالمة.كان الجو مكهربا في وحدات الولاية الثانية،فطلبت من بشيشي أن يغادر المنطقة لتفادي اي اشتباك معهم،لكن بشيشي لم يطبق الامر،و لم يغادر المكان،و قدم الجنود من قالمة،و بدأوا يطلقون النار عليهم من اعلى ربوة،فاضطر بشيشي الى الانسحاب و التراجع تفاديا لاراقة الدماء،بعد ذلك،جاء مسؤول الناحية و رافقني الى مركز قيادة الولاية الثانية الذي كان يوجد بمنطقة جبلية بين القل و مشاط،و كان معي كاتبي الخاص،الطيب حفيان،و هو شاب من سوق اهراس بارع في الرسم.وجدت قادة الولاية الثانية يستعدون للذهاب الى لقاء طرابلس و عقدوا اجتماعات متواصلة،و فهمت من حديثي مع صالح بوبنيدر و عبد المجيد كحل الراس انهم يرفضون سلطة قيادة الاركان العامة،و يطالبون بادماج فيالق الحدود في ولاياتها الاصلية،كان الجنود يستمعون باندهاش الى حديثي الساخن مع عبد المجيد كحل الراس،تحدثت الى صوت العرب وقلت له،”يجب ان نعمل معا لتفادي المواجهة”و إن قيادة الاركان عازمة على الدخول الى الجزائر و هي تتمنى ان نتعاون معا لتجاوز هذه المرحلة الصعبة”.و كان راي صالح بوبنيدر هو تأجيل الحديث عن هذه المسألة الى ما بعد لقاء طرابلس،لكنه كان مستاءا و غاضبا و متشنجا،قلت له:ان الحرب الان انتهت ، و يجب ان نعمل سويا على الحفاظ على وحدة التراب الوطني و وحدة الشعب و وحدة الجيش و تجاوز الخلافات،لان المهام التي تنتظرنا تستدعي ذلك،و كانت دهشتي كبيرة و انا اسمعه يقول،”لن افرط في شبر واحد من الولاية،و كان يقصد الولاية الثانية و القاعدة الشرقية سابقا،و اضاف ”هؤلاء العقداء،و كان يقصد بن عودة و علي كافي و علي منجلي،لم نعتقلهم عندنا و سمحنا لهم بالذهاب الى تونس،و جعلتم انتم منهم عقداء و زعماء”أجبته ”ان الحكومة المؤقتة هي التي رقتهم الى رتبة عقداء و ليس نحن”.
شاب راسو من الانقلابات
اتفقنا في النهاية الى ارجاء الحديث عن المهمة التي كلفتني بها قيادة الاركان الى ما بعد لقاء طرابلس في الايام الاولى لتواجدي بقيادة الولاية الثانية احسنوا معاملتي و ضيافتي،لكن بعدما رجعوا من المؤتمر تغير كل شيء ،نزعموا مني سلاحي و صادروا وثائقي لانه الحكومة المؤقتة حيث علمت بطبيعة المهمة التي كلفت بها،قالت لهم ”ان الشاذلي هو اكبر المشوشين و اسمه يتصدر قائمة الضباط المعوقين على العريضة المنددة بالحكومة المؤقتتة و المؤيدة لقيادة الاركان”ادركت حينها ان النتائج التي اسفر عنها لقاء طرابلس جعلت الحل السياسي امرا مستحيلا.اعتقلوني و عاملوني معاملة لا يعامل بها حتى العدو،و بعد أن علمت الاركان باعتقالي ارسلت محمد عطايلية و من بعده الهاشمي هجرس للاطمئنان على مصيري فاعتقلاهما ايضا في سهل عنابة.كان ابراهيم شيبوط يقول عني :”هذاك شاب راسو من الانقلابات”و طلب من الحراس تشديد الحراسة علي،اما هذاك و كان يقصد ”الروج”ما طار ذراعوا الا من فعايلو”.حاولت اقناع كاتبي الخاص بالانصراف،لكنه رفض و فضل ان يسجن معي،في مشاط رموني في قبو تحت الارض منخفض العلو،بحيث لا استطيع الوقوف بداخله،و كان مفروشا بقطع من اللوح غرروا بها مسامير و تركوها ناتئة بحيث تمنعني من النوم فوقها،قضيت اياما و ليال في مثل هذه الوضعية لا استطيع ان اتمدد ا وان انام،و كنت اتساءل ”ما هو الشيء الذي يحول المجاهد الى جلاد لاخيه المجاهد”و من اين جاءت هذه الاحقاد،و هل كافحنا طيلة هذه السنوات وضحينا بالغالي و النفيس لنصل الى استعمال وسائل التعذيب نفسها التي استعملتها المستعمرون ضدنا..خارت قواي الجسدية و المعنوية و حين كنت احاول ان استدير على جنبي كانت المسامير تعزز في جسدي اكثر.لا أدري كم من يوم قضيته في عتمة ذلك القبو،ربما عشرين يوما أو أكثر،لكنها بدت لي سنوات حين أخرجوني من القبو اعتقدت في تلك اللحظة أنهم سيقودونني الى الاعدام رميا بالرصاص،فقدى اخذوني نحو محجر غير بعيد عن مشاط،طلبت من ”الروج”أن يشعل لي سيجارة،كانت تلك السجارة بالسنبة الي هي سيجارة الوداع:وداع الرفاق،ووداع الاهل،ووداع الحياة،و سلمت أمري لله الذي الهمني الصبر،لكن حين تجاوزا المحجر فهمت أنهم لن يعدموني و أعتقد أن التدخل الحازم لبومدين و منجلي هو الذي انقذ حياتي،فقد علمت فيما بعد ان بومدين هدد الولاية الثانية في حالة تعرضي لاي أذى.بعد ذلك قيدوا يدي بحبل مبلل،و حين جف الحبل انغرز عميقا في معصمي،كنت اشعر بآلام لا تطاق و سال الدم من يدي،اركبوني سيبارة jeep باتجاه الميلية،بعد أن عدلوا عن إعدامي،و قرروا وضعي في السجن،دخلت السجن قبل الاستفتاء بعد ان أخلاه الجيش الفرنسي و أطلق سراح المساجين السياسيين ز في المبنى المقابل،للسجن شاهدت جنود اللفيف الاجنبي يضحكون و يقولون بصوت عال:”ها هم الفلاقة يقتتلون الان فيما بينهم”تمنيت من أعماق قلبي ان لا اسمع هذه العبارة الساخرة، فقد ذكرتني بما كنا نخشاه و نسعى الى تفاديه،بعد ايام ادخل ذلك السجن ايضا سائق فرحات عباس.كنت اسمع من وراء القضبان الشعب يهتف بحياة الجزائر و حياة المجاهدين و حياة بن بلة و استطعت ان اتجاوز تلك المحنة التي زالت اثارها بادية في جسدي و صورها حية في ذاكرتي.بعد الميلية نقلت الى قسنطينة مقيد اليدين،و سجنت في قبو بمقر الولاية الثانية بسيدي مبروك،و هناك علمت ان العديد من المسؤولين العسكريين و الساسييين اعتقلوا في هذا المكان،و منهم قايد أحمد و الهاشمي هجرس.اثناء وجودي في السجن،كان صالح بوبنيدر يتفاوض مع أحمد بن بلة حول رفع حالة الحصار في شمال قسنطينة،و في 24 جويلية استدعاني الى مكتبه،و قال لي:”ان الازمة انتهت،و أنه توصل الى اتفقا سياسي مع بن بلة و بومدين،و إنني حر”،ثم اقترح عليا شبه معتذر أن يمنحني بعض المال لاحلق شعري و لحيتي،لكنني رفضت و طلبت منه رخصة مرور عبر حواجز الولاية الثانية التي كانت منصوبة عبر الطرقات،غادرت السجن مثقلا بالاحباط لكن ليس غاضبا فقد شعرت ان صالح بوبنيدر ندم على اعتقالي و سجني و بعد مسافة غير طويلة وجدت فيالق الاركان العامة على ابواب قسنيطينة ،كنت أول ضابط يزج به في السجن في عهد الاستقلال و آخر واحد يخرج منه.كنت غائبا عن الطارف مقر قيادة اللواء الذي كان يضم افضل فيالق القاعدة الشرفية،حين قررت قيادة الأركان العامة استدعاء فيالقها من الولايات الأولى و الخامسة و السادسة من اجل دخول العاصمة و تخليصها من سيطرة الولاية الرابعة،فملف خالد نزار بقيادة الفيلقين الحادي عشر و الثالث عشر اللذين تكونا في المنطقة الاولى من القاعدة الشرفية ،كانا من افضل فيالق جيش التحرير تدريبا و تجهيزا و خاضا معارك مبيرة ضد الجيش الفرنسي،سار فيلقان باتجاه مدينة بوسعادة،حيث كان هوراي بومدين و علي منجلي موجودين و يحضران لدخول الولاية الرابعة عن طريق سور الغزلان و قصر البخاري و انضما الى الفيالق الاخرى تحت قيادة الطاهر الزبيري.دارت معارك عنيفة و دامية بين الاخوة الاشقاء،لكن التفوق كان لقوات قيادة الاركان بسبب تفوقها في السلاح و لان الجنود الولاية الرابعة كان اغلبهم من جماعة 19 مارس،اي الذين انضموا الى الجيش بعد وقف اطلاق النار ،و قد اصيب اخي عبد المالك الذي كام في الفليق 13،الذي كان يقوده قدور و بوحرارة،بجروح في احدى المعارك.و قد روى لي مسؤولو الفيلقين فيما بعد ان الجنود كانوا يتفادون المواجهة خصوصا بعد الهتافات التي سمعوا الشعب يرددها طول المسيرة الى بوسعادة ”سبع سنين بركات”’.