إعــــلانات

النهار تنشر أهم مضامين كتاب نزار وحقائق عن الجوسسة والموساد

النهار تنشر أهم مضامين كتاب نزار وحقائق عن الجوسسة والموساد

 كشف وزير الدفاع الأسبق اللواء المتقاعد “خالد نزار “، عن حقائق مثير في كتابه الجديد.

وحمل الكتاب المعنون بـ “خالد نزار المذكرات الكاملة” أحداث تجسس على الجزائر وقصة القذافي مع الموساد والسي إي أي.

مقدّمة

كان لقائي الأول بخالد نزّار خلال المسيرة الدموية باتجاه الجزائر العاصمة غداة الاستقلال، لما واجه المجاهدون إخوانهم المجاهدين من الجهة الأخرى ليقتتلوا فيما بينهم. ولم أكن أعرف وقتها هذا “المخادع للموت” الذي كان يتقَّدم من دون سلاح على الطريق المعبَّد الذي يربط عين الحجلة بسيدي عيسى ؛ وكان الرصاصُ يتضارب كثيفًا مدوّيًّا تاركًا آثارَه على الأرض اللّزجة، وكان خالد نزّار يومها محاطا بالبركة. وكانت الشمس في كبد السماء ساطعة والطقس حارّا. كان يوما مشهودا نعود إلى ذكرياته بعد سنين طويلة في لقاءاتنا نغوص في تفاصيله نصوّرها لحظة لحظة ؛ وكأني لا زلت أسمع صوتَ ذلك الضابط الذي أُرسل لنقل جثة النقيب محمد صلاح بن عبّاس وهو يقول يومها: “يجب توفير شاحنة تشتغل بالبنزين لأن عربة المازوت ستتزحلق على أرض الميالي”، وغضبِ جنود الولاية الأولى بعد موت المحارب القديم، ودويَّ الطلقات الكثيفة التي كانت تستهدفنا من المتبنة على القمة قبالتنا، وأتذكّر بن بلّة ومروحيته، حسان خطيب ويده المضمّدة، وكثيرا من التفاصيل الأخرى التي نُقشت بمادة الأدرينالين التي لا تمحى.

حينما أقضي الساعات ولو كانت قصيرة مع الجنرال خالد نزّار أشعر بالغوص بعيدا في تاريخ الجزائر الثوري. والحديث معه شيق يحيلك على أحداث كبرى كان فاعلا فيها وشاهدا عليها، كتابًا مفتوحًا مزدحمة صفحاتُه بالأسماء والأماكن، سردًا خاصًّا تميّزه التّكراراتُ والاستطراداتُ والومضاتُ والفراغاتُ والفواصلُ والتّوقّفاتُ المفاجئةُ في خضم ذكرٍ يأتي فيه اسمُ رفيق غادر الحياةَ حديثا ؛ العياشي فلاّﭬـو، عبد النور، أحمد الأصنامي، ومجاهدين آخرين كثر..

وفي الوقت الذي لا تتوقّع منه استطرادا طويلا، تراه يعود بك إلى ما ذكره بالأمس أو قبل أيام، لتتمة فقرة أو ملء بياض أو وضع كل شيء في مكانه مثلما يفعله ذلك الكومبيوتر الحريص على الإتقان الفني للأشكال والصور والألوان والأبعاد والأحجام.. فالقراءة المتجددة بعد فترات معينة تزيد من اتساع النظرة حول الفكرة.

ذكرياتٌ وُجدت هكذا مبعثرة مشتتة، لا مراعاة لتنظيمها.. ولا مبالاة لا بالتركيب ولا بالتنسيق المحكم للكلمات، ولكن هذا الاختلال الظاهر ليس اختلالاً مفارقًا للتّناسب والتّناغم ؛ إذْ ينتهي المطاف بالأحداث وثقلها وديناميّاتها بالانطباع صورةً على اللوحة التي يرسمها بمنطق صارم.

باحثٌ يسير بعيدا عن النُّهُج المبتذلة واضعًا فانوسًا شديد الإنارة مُعمٍ على الحُجب الكثيفة للزمن الذي يمضي، ويتكلّم عن ذاكرة الماء ؛ والنهر مكوّن من ماء في حركة دائمة، ولكن يبقى نفسَه في آنيته وبما هو عليه ماكثٌ في الأعماق.. والأمواج والزّوابع والأعاصير، مما يوجد شبيه له في الوجود، تنحلُّ متلاشية في المياه المتلاطمة من دون أن تختفي كلية، ولا شيء يتغيّر إلى الأبد لأن كل طارئ أو حادث عابر يترك بصمته ؛ والإنسان موجودٌ حيٌّ بذاكرته أولا. ومهما كان مكان الحافة التي نرى منها، فإن كل قطرة ماء تعدُّ مشكلاً لا متناهٍ حيث تهتزّ وتتصادم فيه حصى رملِ الأيام المحبوسة بين مضايق قِمع الساعة الرّملية ؛ صورة تولّد صورا أخرى متضاعفة متكاثرة يتداخل بعضها في بعض إلى ما لا نهاية بين جنَبات المرايا المتوازية والصلبة التي تهتزّ وترجُّ في نفس الوقت.

يقف نزّار على الحافة الأخيرة مبصرا نهره الذي مضى.. متأمّلاً النهر الذي يمضي أمامه، ثم يتساءل: “كيف يمكن تحديد أو تفسير هذا الشعور لما نكتشف أن الوجود هو كيانٌ خارجٌ عن الزّمن، وكل شيء إنما هو ثابتٌ مستقرٌّ في جوهره ولا يتغيّر أبدا؟”.

أظهر الرجل منذ صغره حبّه للحياة العسكرية حتى أصبح جنديا. وحاول خلال عشريات أربع مثل العديد من ضباط الجيش الجزائري، الجمع بين صفتي الجندي المطلوبتين: الخضوع والخدمة ؛ فبالنسبة للجنود الآخرين الذين مرّوا عبر قالب الثورة، اتّخذتْ كلمة “خدمة” لديهم معنى ومضمونا آخرين مثلما برهنوا عليه لما زادت مخاطر انهيار الجمهورية. وكان البعض يراه رجلا مستفِزّا عنيدا، وطيبا لينا عند الكثير ممن عرفه، ومعروفا عنه بخرجاته الإعلامية المميزة.. وبين مختلف الآراء والأحكام كان للرجل سيرة مهنية عسكرية مثالية، إذْ اعتلى الرّتب والمراتبَ درجة درجة من دون “المساعدات” التي تدفع المخلص لتصدّر الفرقة. وكانت مآثره الكبرى تتمثل في إعادة هيكلة القوات المسلحة الجزائرية والمحافظة على الجمهورية التي كانت تهدّدها المخاطر من كل جانب. وهؤلاء الرجال، وعلى وجه الخصوص خالد نزّار، لم تكن مهمّتهم سهلة.

وعلى قول البعض فإن هذه الثّلة من الضباط الآتين من المدارس أو الثكنات الفرنسية، هم سببُ كل المصائب التي لحقت بالجزائر. ويخلط هؤلاء أحيانا لحاجة غير بريئة في أنفسهم، بين الأجير المرتشي الخائن لوطنه وبين الجندي المجنّدِ إلى الصفوف حكما بالأوامر أو المرشح لتربة ضابط في مدرسة عسكرية كبيرة.

وقد أبعدت المحشَّة أو الحاصدة الكبرى العديدَ منهم خارج معارك حرب التحرير الوطني. وتعْلمُنا الجرائد كل يوم عن وفاة هذا أو ذلك من بين الأسماء الكبيرة المعروفة بنضالها ؛ ولم يعد الباقون على قيد الحياة سوى مجموعة قليلة وقد اشتعلت رؤوسهم شيبا متألمين وناظرين بحرقة الحزن إلى الاضطراب العقيم من حولهم، مستسلمين لجحود التاريخ الذي فرضه عليهم البلد الذي خدموه طويلا.

وبعيدا عن كونها مجرد جمع وإعادة نقل لما سبق لنزّار أن كتبه، تحمل هذه المذكرات إضاءات وإيضاحات حول الرجال والأحداث، وتكشف اللثام عن كثير من الحقائق.

حرصت في هذه المقدمة التي أتشرّف بتحريرها على الوقوف عند العديد من اللحظات المميزة لسنوات القرية، لأن البيئة والمحيط هما الحاضنتان الأوليان اللتان تصنعان ملامح الفرد النهائية، فلما يعرف المرءُ وهو صغير الحرمان ويذق الآلام ويواجه المحن، فإن ذلك من شأنه أن يزيده جلدا وصلابة فيخرج من ذلك قويا ليواجه الحياة التي تنتظره. ولم يكن خالد نزّار لينأى عن الضربات والطعنات ؛ وحياءً منه لا يذكر أبدا المأساة الرهيبة الشخصية التي بقيت راسخة في ذهنه وتركت أثرها على حياته وحياة أبنائه، وربما يأتي يوم ويقبل فيه لأنْ يفتح أحدُ كتّاب السيّر هذا الباب المغلق باحتشام. وعلى الرغم من المخدر الذي تفرزه ثَقَلات الزمن لا زال الجرح لم يندمل بعد، جرحٌ يحركه من حين إلى آخر خنجرُ النميمة والفرية المسموم ؛ وليست هي المأساة الوحيدة التي عاشها هذا الرجل، كما أن هذه الأحداث الأليمة ليست هي موضوع هذا الكتاب.

ولأثري تصوّراتي وأجعلها أكثر واقعية عن الفيض الأول وعن “المشاهد والطّبائع” كما يقال في مقررات وكتب الأنتروبولوجيا التي تعرض الوجوهَ الأكثر تجعيدا لـ “قبيلة” أو “عشيرة” من أجل الاستعمال العلمي في المدرجات الجامعية، ذهبت رفقة خالد قبل عامين لزيارة الأماكن التي وُلد فيها وترعرع فيها: جبال بلزمة ومدينة سريانة. وسنوات الطفولة التي يبدأ بها نزّار سرده، لها نقاء وصفاء ونداوة المنبع، المنبعِ الأولِ الذي اغترف منه كلُّ كائن حيّ ولن ينساه أبدا. ولنا شخصية نجدها بارزة على مستوى هذه السنوات الدافئة: إنه رحّال، الأب المتواضع بمكانته الاجتماعية في الجزائر المستعمرة والكبير بشجاعته وأفعاله. كان يوما جميلا من بين تلك الأيام التي بقينا نتذكّرها طويلا. وبعد تجاوز المنخفض المتدرج صخورًا ضخمة ثم وصولا إلى القمم، تجد نفسك واقفا على خط يشرف على الأعماق السّديمية لجبال بلزمة[1] مهدِ نزّار.

بلغنا ارتفاع 1500 م والمظهر يرتسم قبالتنا رائعا خلابا تهيمن عليه صورة الصخور الضخمة المتراصّة نضدًا ؛ ويعطيك النبعُ الذي يتفجّر ماء نضحًا من باطن الأرض، وظلالُ الجرف الممتدّة، والأدبِلةُ أو التربةُ النّدية ذات النباتات الخضر المختلفة، وخريرُ مياه الجداول المتدفّقة غدقًا.. يعطيك كلُّ هذا رغبة في الجلوس للاستسلام لهدهدة النسيم اللطيف والسماع إلى ذاكرة المكان.

وعلى خاصرة الرّبوة لا زالت البيوتُ ثمّة بجدرانها المهدّمة وبأسقفها المنهارة تشهد على آثار حرب التحرير، هنا حيث كان يسكن أفراد عائلة نزّار. فقد زال كل شيء. وانتهى المطاف بالأب رحّال بمغادرة المكان واللجوء بعائلته إلى القرية الصغيرة بالأسفل.

عرفت رحّال من دون أن ألتقي به أبدا، وحياته المروية على لسان ابنه تشبه حياة والدي وحياةَ عشرات الآلاف من الجزائريين الذين عاشوا فترة ما بين الحربين ؛ وكان يتقاسم نفس المصير مع والدي الذي كان حمّالَ جرحى خلال الحرب العالمية الأولى، وكذا نفس النظرة للأشياء والحكم عليها: ظروف الحياة الصعبة في بداية القرن العشرين، التجنيد الإجباري، الرعب الذي يصيب الأنفس لما تهشّم المدافع أجساد الرجال، الرفاق الذين ذهبت أجسامهم أشلاء بالقذائف التي لا ترحم، الجثث المعلّقة بين الأسلاك الشائكة، العودة إلى الدشرة أو القرية، السنوات العجاف، الأيام الطويلة من أجل البحث عن وسائل الرزق، الأجرة العسكرية الزهيدة والمعركة من أجل توفير على الأقل لابن واحد أفضل الفرص لمواجهة الحياة.. هذا الذي كان في الحقيقة قدر الجزائريين الذين ارتدَوْا مكرهين مجبرين زيَّ المستعمِر.

وفي هذا يروي لنا نزّار: “كانت ظروف الحياة صعبة في سنوات الأربعينيات، فالقيود التي خلقها النزاع الذي أغرق العالم في الدّماء كان لها انعكاساتٌ خطيرة على الجزائر. وتعوّد الجزائريون الذين اغتُصبت منهم أراضيهم وسُلبت منهم ممتلكاتهم عن طريق القوانين المجحفة الظالمة، على العيش بالتقتير راضين بالقليل، يحرثون الأرض ويزرعونها خضرا ويربّون قطعانا من الماعز أو الكباش، وأوفرهم حظا كان يملك بقرة أو بقرتين ؛ وكان عالم الفلاح الصّغيرُ مصنوعا من السّنابل والحَبّ المنثور والدّيون وأحيانا من الكوارث الطبيعية. وكانت محاولات أرباب العائلات لامتهان شكلا من أشكال التجارة سرعان ما تبوء بالخسران، فبأي ثمن يلزم الراغب في أن يكون تاجرا شراءُ بضاعته ولمن يمكنه بيعها ؟ فكان من الصعب الحصول على المال، والبيع بالدين أو بالآجال كان يأتي على البضائع المعروضة فيستهلكها على قلتها تلك. ووالدي الذي امتهن مهنة الجزارة أدرك سريعا أنه قد وضع ماله الذي ادّخره فيما لا يمكن الربح فيه، فأغلق محلّه وعاد إلى نشاطه الأول الذي كان يمارسه قبل أن يلتحق بالجيش: تربية الأغنام ؛ وبين رعي الكباش والاعتناء ببستان الخُضار وفناءيْ الدواجن والأرانب، كانت الأيام تمضي سريعا، ولم يكن مع ذلك ليشتكي حاله أبدا، بل وحتى لما أتى مرض السُّواد على مزرعته فأفسدها وأهلكها في بضعة أسابيع لم يسخط ولم يشتكِ. وتحسّنت الأوضاع قليلا سنة 1943 بالمدن الكبرى، عند نزول الأمريكيين ببلادنا، فأصبح الناس يُعطَوْن قسيمات للتزوّد بالمواد الغذائية الضرورية. أما في القرى والأرياف فالوضع كان مزريا، وزادت الفاقة تعاظما لما غزت جحافلُ الجراد المحاصيلَ تعيث فيها فسادا، وقامت وقتها السلطات تحارب هذه الآفة باستعمال مبيد للحشرات ممزوج بالخُراشة، مما قضى على الجراد ولكن كانت مواشي الفلاحين تموت معها أيضا.

لا زلنا دائما بلمْتارس حيث يشرف خطُّ القمم بعد تجاوز المنخفض المتدرج صخورًا ضخمة، على الأعماق السّديمية لجبال بلزمة، وكان لكل واحد منا حكاية يحكيها. وراح الرجل الذي كان يتكلم يتبع بسبّابته مستوى الأفق قائلا: “دمّ السماء” ؛ هل اللون الأرجواني الذي كان يزيّن القمم عند الغسق هو ما أوحى له بهذه الصورة ؟ أو “جذور السماء” لأن السماء عندما تُرى من الأسفل تبدو وكأنها مرتكزة على صُلب الجبل ؟ أطلسٌ من الفخار والصلصال يحمل السماوات بمنطقة لمتَارس !

وتعطينا الحكايات عن سكان جبال بلزمة وعن كفاحهم ضد الغزو الفرنسي فكرة عن المعاناة التي عاشها الذين سبقونا. فمن هنا بدأت ثورة 1916 ضد التجنيد الإجباري في صفوف الجيش الفرنسي.

“كان الجزائريون في القديم يحدّدون ويسجّلون الوقت الذي كان يمرّ بمعالم مرتبطة بأحداث تراجيدية عاشها الناس: عام الشرّ أو عام المجاعة.. عام التيفوس.. عام الجراد.. عام السنغاليين.. مأساة لا يمكن أبدا محوها من الذاكرة الجماعية ؛ وكان العام الذي ذهب فيه والدي إلى الجبهة كان عام السّنغاليين..”.

يخصص خالد نزّار العديد من الأسطر لمقاومة سكان جبال بلزْمة الذين أفشلوا بشجاعتهم وبسالتهم كلَّ محاولات فرسان الصّبايحية أو السّبايسيّة والجنود المأجورين الآخرين الذين كانوا يريدون إخضاعهم لسيطرة الغازين. “أراد سكان الجبال صناعة مدفع لمواجهة القمع، فقاموا بإفراغ جذع لشجر البلوط من محتواه وحشّوه بالبارود. لكن مدفع الكرّوش هذا تبيّن ضعيفا وباءت المحاولة بالفشل أمام الأسلحة المتطوّرة التي كان يمتلكها العدو”. خمسون سنة كانت تفرق بين مدفع الكرّوش والمدافع الأخرى من نوع 75 التي لا ترجع إلى الوراء عند القذف أو نوع 122 مم المعروفة بـ CLZ1 التي كان يقودها سليل المدفعيين الشجعان لبلزمة.

“كانت والدتي مثل كل أمّهات الجزائر في هذا الفترة تسيّر بالتقتير الموارد الغذائية الهزيلة للعائلة التي كانت تضمّ أربعة عشر فردا يجب إطعامهم. لكن الجهد والحرمان تمكّنا من التغلب على صحتها وتوفّيت سنة 1944 تاركة وراءها العائلة في اضطراب. فخلفها أقاربي من والدي في تسيير شؤون البيت، وكان عمري وقتها سبع سنوات. وكان الجبليّون يتألمون ويحزنون على حياء، إذْ كانوا يعزّون أنفسهم غير ساخطين على مصائب الدنيا التي يعزونها للقدر و”المكتوب””. وكان للشعور بالظلم في الجزائر المستعمرة والذكريات للمجازر الرهيبة المروية من قبل القدامى، أنها تركت آثارا بليغة في مئات الآلاف من الجزائريين في تلك السنوات الحالكات.

تغيّرت المنطقة القديمة التي لجأت إليها عائلة نزّار بعد الرحيل عن الأرض الحجرية، حتى ولو بقيت تحافظ على بعض المنازل ذات البناية الكولونيالية القابلة للإسكان مجددا من قبل أبناء المنطقة. كما بقيت “المدرسة الصغيرة على الربوة” التي يتكلّم عنها نزّار دائما محافظة على كيانها هنا بهذا المكان بواجهتها الصغيرة الحزينة. ويذكر لنا نزّار المعاملة العنصرية التي كان يلقاها الفرد الأنديجان في الوسط الكولونيالي.

“كان في عمري ثماني سنوات لما دخلت المدرسة الفرنسية، وكانت مدرسة أطفال الأهالي تقع بأعالي القرية ويطلق عليها بالمدرسة “الفقانيّة”. وكنا نحن أطفال الأهالي نتميّز برؤوسنا المحلقة صلعاءَ تجنبا لعدوى القمل. وحتى يعبّروا عن تقديرهم التافه لنا، أدرج الفرنسيون في البرنامج المدرسي كتابا للقراءة يلخصُّ في عديد من الدروس سعادة وشقاء الشاب عبد الله. أما الاسم فلم يتم اختياره هكذا على الصدفة، فكلمة “عَبْدٌ” مأخوذة من العبودية والانقياد والذلّ ؛ و”الله” هو الربّ والإله المعبود. وعَبْدُ اللهِ هو إذًا مخلوقُ الله الصابرُ الخاضعُ المنقادُ المستسلمُ للمشيئة الإلهية راضيا بقضاء الله وقدره فيما يجري في هذا العالم وبالوضع الذي هو عليه، عالمٍ يخضع فيه الضعيفُ لقانون القوي لأنها مشيئة الله..”. كما يتكلم نزّار أيضا عن هؤلاء روّاد مدرسة الجمهورية الرائعين المتفانين في مهمّتهم بوجوه مؤثرة لما يتلقّونه من ظلم قانون الأهالي، والفقر والبؤس وكل أنواع الإهانة.. ولا أي فعل مهما كان كريما أمكنه من تغيير من طبيعة الأمور شيئا. والمعلم “بيروشو” الذي كان ينبش ويقتلع الجذور من أصولها في أيام الجليد، إنما كان يتهجم على الطبيعة الجبلية.

ولا يقدر رجلُ الحرب ممرّرُ عابريّ الخطوط المكهربة والمنحدرات الملغمة على كبح مشاعره الفياضة لما يتكلم عن والده الذي قبل بأن يلتحق ابنُه بدوره بالحياة العسكرية، في صفوف الجيش الفرنسي لسوء الحظ ! خالدٌ بنُ الفقير الذي لا يملك حتى حقيبة صغيرة يضع فيها أغراضه سيلتحق بالمدرسة الجُندية للأطفال بالقليعة.

سيصبح مربع الأحجار أين بدأ خالدٌ الطفلُ تعلّم المشي بالخطوات المحسوبة بحذائه العسكري الغليظ وبقلب يتفطر حنينا إلى القرية واشتياقا إلى أهله، مبعثا للوعي والحزم. “كان أول خروج لي في مخيم صيفي سنة 1951 إلى فرنسا، وكانت هذه الزيارة بالنسبة لي مناسبة لأدرك أنه لم يكن  للقليعة غاية أخرى سوى إعطاء تكوين محدود يناسب الجنود المأمورين الثانويين المستقبليين. وكل شيء تم تدبيره بالقليعة حتى لا نتجاوز أبدا رتبة صف ضابط، وكانت إدارة المدرسة تعتمد كل الحيل والخدع لتعطيل مسارنا التكويني، بحيث تلزمنا على إعادة السنة لسبب أو لآخر. لكن المدارس الجُندية بفرنسا كانت تضمن تكوينا يحضّر طلابها للدخول إلى المدارس العسكرية الكبرى”.

“ومع الوقت وازدياد نضجنا وتقدّمنا في سن الشباب، زاد وعينا بحالتنا كمستعمَرين. وقد صادف عامي الأول بالمدرسة اندلاع ثورة التحرير الوطني، وكنا أغلبيتنا نتكلم عن هذا الحدث العظيم: ” أخيرا ! لقد حان الوقت لينهض الجزائريون ويثوروا من أجل حريتهم ! فلم يكن وضعنا المهين إذًا غير قابل للتغيير، فقد بتنا اليوم معنيين بالقضية. ومثلما حدث في ثانويات وإكماليات الجزائر الأخرى، لبّى العديد من الطلبة والتلاميذ نداء الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين (UGEMA) تاركين مقاعد الدراسة والتحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني. والتقيت لاحقا بالجبال معاقل الثورة ببعض الرفقاء القدامى”.

يشرح نزّار بوضوح لماذا فتح روبير لاكوست Robert Lacoste باب الرّتب ولو نصفَه للشباب الجزائريين: “لبست الزيّ العسكري بمدرسة ستراسبورغ وأنا في عمري سبع عشرة سنة ونصف -في حين أن القانون الذي كان ساريا وقتها لم يكن يسمح إلا ببلوغ الشاب سنّ الثامنة عشر كاملة- ؛ فقد استفدت إذًا مثل رفاقي من “ترقية لاكوست”. فبهذا “السّخاء” كان هذا الأخير يعترف أن الجزائريين بكل طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية والمهنية سواء أكانوا في الجيش الفرنسي أو في الإدارة، كانوا ضحية للتمييز والتفرقة وأن ترقياتهم التي كانوا يستحقّونها تم تعطيلها رغم حسن أدائهم للخدمة. وكان روبير لاكوست يظنّ أن “كرمه” هذا بإمكانه أن ينزف المشاعرَ ويعزّي النفوسَ ويداوي الجراحَ ؛ وكان يبدو أنه لم يفهم شيئا، فالجزائريون لم يعودوا ليكافحوا من أجل المساواة في الفرص وإنما من أجل حريتهم. فقد كانت جرائم ماي 1945 في الشمال القسنطيني التي ارتكبتها الميليشيات المجرمة بتدعيم من الإدارة المحلية المتمرّدة على القوانين بحجّة استباق ودحض الخطر الوطني، بمثابة الهزيمة لشعارات ثورة 1789 التي كلفت أصحابها الكثير من التضحيات من أجل إعلائها. وأدت عمليات القتل هذه الجماعية المعترف بها من قبل فاعلها إلى قطع الرباط الذي نسجته بصبر طويل بين الشعبين المدرسةُ الفرنسية الجمهورية ذات النزعة الإنسانية التي أنست أصحاب الأرض الأصليين “الذين تم تطويرُهم” بفعل اجترار مرارا المبادئ النبيلة الكبرى، جرائمَ الغزو وما تلاه من تخريب وتدمير وإهانة. وكشفت المقابر الجماعية بـﭬـالمة وسطيف -رمسُ أوهام هذه المدرسة- لجيل بأكمله من الجزائريين عن المعنى الذي كان يعطيه منظّرو الاستعمار وأتباعُهم لـ”الحرية” و”المساواة”. فمن اليوم فصاعدا لن يطلب الجزائريون المضطهدون ثانية الاندماج ولكن يريدون الاستقلال، فقد بدأ أول نوفمبر 1954 يوم 08 ماي 1945. إن روبير لاكوسْت لم يفهم شيئا”.

والتحق العديد من أقارب نزّار من بين عمّ أو خال بصفوف جيش التحرير الوطني. وكانت رغبة خالد الوحيدة اتّباع درب هؤلاء، ولما جاءت الفرصة خطى خطوته نحو الأمام وتم إرساله إلى تونس. ثم عُيّن مكوّنا ومدرّبا بمنطقة الكَاف غير البعيدة عن الحدود الجزائرية. وقد كان كريم بلقاسم قد أنشأ “المكتب التقني” أين جمع فيه نخبة الكفاءات العسكرية الجزائرية: الضباط الفارين من الجيش الفرنسي أو المتخرّجين حديثا من مدارس الحرب بالمشرق الأوسط ؛ وضاعف من تأسيس مراكز التكوين العسكري. وكان لخالد نزّار أن وجد مكانته مباشرة في هذا التنظيم، حيث سيقدم كل ما كان يملكه من كفاءة ومثابرة وانضباط في انتظار تعيينه في إحدى الوحدات العملياتيّة.

قبل وصول هؤلاء الشباب، سبق لجيش التحرير الوطني وأن تدعّمت صفوفُه بعساكر احترافيين مضرّسين تدرّبوا في جبهات القتال بفرنسا أو بالشرق الأقصى، مثل عبد الرحمن بن سالم الذي أصبح قائد الفيلق الثاني بالقاعدة الشرقية ثم مسؤولا عن المنطقة الشمالية بالحدود الشرقية للجزائر بين سنتيْ 1961 و1962، ثم في الأخير عضوا في مجلس الثورة من 19 جوان 1965 إلى 14 ديسمبر 1967 ؛ ومحمد عواشرية الذي عوّض العقيد “بوﭬـلاز” لما غادر هذا الأخير نهاية سنة 1957 منصبه كقيادة عمليات التدريب والتكوين لدى قيادة العمليات العسكرية (COM) ؛ وعبد الله بلهوشات برتبة رقيب أول ذي التكوين العسكري المحترف، الذي فرّ من إحدى فرق القمع التابعة للجيش الفرنسي ثم التحق بصفوف المجاهدين حيث أظهر شجاعة كبيرة في القتال بخاصة أثناء كمين بمنطقة ﭬـونود Gounod غير البعيدة عن ﭬـالمة تحت قيادة طيب عرفَة المفوّض من قبل عباس لغْرور لبعث الثورة من جديد في جهة الشمال الشرقي بعد استشهاد باجي مختار في 11 جانفي 1955، هذا وتقلّد بلهوشات مناصب أخرى عليا في جيش التحرير الوطني ؛ كما يمكننا ذكر محفوظ شريف الذي فرضته لجنة التنسيق والتنفيذ (CCE) مسؤولا على رأس الولاية الأولى كواسطة للانتقال إلى منصب وزير للتسليح بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

وإذا عدنا بالتاريخ بعيدا، نجد من بين الذين لبسوا الزيَّ العسكري للجيش الفرنسي في فترة أو في أخرى: كريم بلقاسم، مصطفى بن بوالعيد، محمد بوضياف، عمر أوعمران ؛ وكان هؤلاء الرجال ينتمون إلى جماعة المناضلين الاستقلاليين مفجّريّ ثورة أول نوفمبر 1954 !

ó       ó        ó

وهذا ما كتبه الأستاذ سليمان الشيخ في مقدّمته التي حرّرها لكتاب خالد نزّار الذي خصّه لمشاركته في حرب التحرير ؛ وإني ذكرت هنا أهمّ ما جاء في نصه الذي لخصّ جيدا ما قام به المجاهدون الذين التحق خالد نزّار بصفوفهم بعد مغامرات عديدة. ويعدّ هذا المؤلَّف الذي جاء في شكل شهادات ومرافعة في نفس الوقت، الكتابَ الثاني لخالد نزّار[2]، ويكتسي أهمية كبيرة بالنظر إلى العدد الكبير من الكتابات التي تناولت الكفاح المسلح من أجل الاستقلال حيث نجد الجزء المخصص للمعارك محدودا نسبيا على الأقل من الجانب الجزائري.

ويعدّ التوضيح الذي يقدمه هذا الكتاب حول العمل العسكري لجيش التحرير الوطني بالحدود الشرقية للبلد، مساهمة جد مفيدة لإعادة تركيب جانب هامّ من هذه الحرب التي لم تعترف بها فرنسا رسميا إلا في سنة 1999[3]. فمثل هذا الاعتراف الذي يأتي بعد أكثر من أربعين سنة من اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، لا يقوم إلا بالتأكيد متأخرا على حقيقة فرضت نفسها على الميدان عبر نزاع أجبر فرنسا على تجنيد قواتها العسكرية بأسلحتها الفتاكة ومواردها البشرية والمادية الضخمة. لنذكّر بإيجاز أن هذه الحرب التي تندرج ضمن الكفاح من أجل التحرر الوطني، كانت نتيجة لمسار طويل من النضج بداية من المقاومة الوطنية المسلحة ضد الغزو الكولونيالي خلال القرن التاسع عشر، ثم تلاها بعد الحرب العالمية الثانية العملُ السياسي للأحزاب الممثلة للحركة الوطنية الجزائرية. هكذا جاء الكفاح من أجل الاستقلال الوطني بصفته ثمرة لهذا “التراكم التاريخي”، خلاصةً للمراحل السابقة بالجمع بين العمل المسلح والعمل السياسي المنظم، مما أدّى إلى تحقيق النجاح في تجنيد كل الشعب الجزائري لمعركة تحرّرية تتّسع إلى كامل التراب الوطني وخارج حدوده.

وأخذا بالاعتبار لهذه المقاربة الشاملة، يدعو المؤلِّف إلى تجاوز الانشقاقات التي تسبب فيها الانقسام الذي كان قائما بين جيش التحرير بالداخل وجيش التحرير بالحدود ؛ ويبيّن عبر سردِ مختلفِ العمليات المنظمة بالحدود الشرقية للبلد ضد الجيش الفرنسي، مشاركةَ كل هؤلاء المقاتلين في العديد من المعارك الضارية، الذين كانوا يتقاسمون كإخوة ورفاق سلاح نفسَ العزيمة في معركة غير متساوية ونفسَ مخاطر الموت.

وأدّت مثل هذه التجربة بكل تأكيد إلى نسج روابط متينة زالت وانمحت بفضها كلُّ الفوارق والاختلافات مثلما تؤكّده صورُ: خبز الكسْرة الذي يتقاسمه المجاهدون فيما بينهم بالعدل، العلبة المعدنية المحاطة بسلك من حديد والمستخدمة إبريقا للقهوة، السيجارات المصنوعة ارتجالا بأوراق النباتات المجفّفة والملفوفة في ورق مأخوذ من الجرائد، الأقدام المدمية بسبب السير التواصل لعدة أيام، السير ليلا في أرض سبخة غزاها البعوض، حمل رفيق جريح، الخوف الذي نتغلب عليه، الصمت الذي نستبره.. كل هذه العناصر كانت تشكل القدر الذي كان يتقاسمه المجاهدون طرفيْ الحدود.

وتحمل أيضا شهادة الجنرال نزّار بإعادة رسم مساره الشخصي منذ فراره من الجيش الفرنسي في أفريل 1958 إلى تعييناته المتتالية في وحدات جيش التحرير الوطني بالحدود الشرقية، جوانبَ أخرى مختلفة لمغامرة جماعية معاشة توحي ببعض الملاحظات.

وتخصُّ الملاحظة الأولى الدور الإستراتيجي الذي لعبه جيش الحدود في الكفاح من أجل التحرير الوطني ؛ ذلك أن الصورة المنقّصة من قيمة جيش قليل الانخراط أو الاندفاع في هذا الكفاح، لم تجد ثباتا لها إزاء امتحان الوقائع المروية في مسرد المعارك هذا. وبلا شك أن ظروف الكفاح كانت صعبة في الجبال والمدن بالداخل، ولكن العمليات التي كانت تُنظَّم على الحدود ضد الجيش الفرنسي، عرّضت المجاهدين هي الأخرى لنفس المخاطر، الذين أبدوا نفس العزيمة وأبلوا البلاءَ الحسنَ نفسه في المعارك ونفسَ معنى التضحية. هذا وإلى غاية غلق الحدود مع إنشاء خطّيْ شال وموريس، تم استخدامُ المناطق الحدودية من جهتيْ الشرق والغرب كفضاءات تراجع وانسحاب للولايات المجاورة، حيث أنشأت كلُّ واحدة قاعدتها اللّوجيستية، ووحداتُ جيش التحرير الوطني التي كانت تتواجد هناك كانت تنشط تحت أوامر هذه الولايات نفسها ؛ ولم يتجسد التنسيق بين هذه الوحدات إلا بعد إنشاء القيادتين الاثنتين للعمليات العسكرية (COM) بالحدود الشرقية[4] والحدود الغربية[5] عقبَ الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقد بالقاهرة (20-28 أوت 1957). غير أن المهمة كانت أكثر صعوبة بالنسبة لقيادة العمليات العسكرية بالشرق التي كان عليه مواجهة العديد من حالات اللاانْضباط، ففي هذا الظرف من الأزمة[6] تحديدا قرّرت الدورة الثالثة لمجلس الثورة للجمهورية الجزائرية المنعقدة بطرابلس (16 ديسمبر 1959 - 18 جانفي 1960) من بين قرارات[7] أخرى هامة اتّخذتها، استبدال قيادتيْ العمليات العسكرية بقيادة أركان عامة تضمن وحدة قيادة كل وحدات جيش التحرير الوطني.

ومع إنشاء قيادة الأركان العامة برئاسة العقيد هواري بومدين[8]، تشهد عملية إعادة هيكلة جيش الحدود مرحلة جديدة وعلى وجه الخصوص بالحدود الشرقية التي كانت مقسّمة إلى منطقتين: المنطقة الشمالية بقيادة عبد الرحمن بن سالم، والمنطقة الجنوبية بقيادة صالح سوفي. وحينها شرع العمل المنهجي لتنظيم جيش منضبط ومدرّب تؤطّره إطارات كفأة ومزوّد بوسائل معتبرة: ليتجاوز تعداده المتصاعد خمسة عشر ألف جندي في 1960 ثم يتضاعف بعد سنتين على مستوى جهتيْ الحدود (10.000 بالغرب وأكثر من 20.000 بالشرق). وكانت إحدى خاصيات هذا الجيش الأساسية جمع الجزائريين الآتين من كل مناطق البلاد ومن مختلف أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص من البلدان المجاورة ومن أوروبا. فكانت هكذا المناطق الحدودية أقطابا قوية لجذب المناضلين الذين يريدون الانخراط في صفوف جيش التحرير الوطني وفضاءً واسعا لالتقاء وتجمّع مختلف مكوّنات المجتمع الجزائري.

وبتحقيق تصاعده القوي، وصل جيش الحدود إلى مستوى عال ونوعيّ من التنظيم بقيادة العقيد هواري بومدين الذي سخّر لخدمته كل الكفاءات العسكرية المتوفرة، سواء من بين الضباط المكوّنين في بعض البلدان العربية (مصر، العراق، الأردن، سوريا)، أو من بين الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي. أما هؤلاء الأخيرين فقد نقلوا معارفهم العسكرية لفائدة جيش التحرير الوطني، كل ما تعلّموه من طرق التنظيم وتقنيات الحرب عند العدو. وهكذا أدّت “الجدلية الكولونيالية” المتواصلة فواعلُها إلى إحداث قلبِ الوضعية والدّعوة إلى استعمال اللغة الفرنسية كـ “غنيمة حرب” لكسب الطرق الكفيلة لمواجهة الاستعمار والتعبير عن المشروع الوطني.

وكان التنظيم والتكوين المحركيْن الأساسيين اللذين سمحا لوحدات جيش الحدود تحقيق الانسجام ورفع من مستوى القدرات القتالية. وكان مركز ملاّق بالحدود التونسية بقيادة عبد الحميد بن عبد المومن، من بين أهم مراكز التكوين العسكري والتدريب على استعمال مختلف الأسلحة وبخاصة الأسلحة الثقيلة التي ستزوَّد بها الفيالقُ والكتائبُ ذات التعداد الكبير ؛ وقد وصل عدد هذه الأخيرة في ظرف عامين وعشيةَ وقف إطلاق النار إلى سبعة، مما يعني أنه تم بذل مجهود كبير من أجل الوصول إلى هذه النتيجة وفي وقت قصير. كما استقبل مركز ملاّق مناضلين أنغوليين استفادوا من تكوين عسكري وتدريب في تقنيات حرب العصابات. وغير بعيد من هنا، بـﭬـرْن حلْفايَة على وجه التحديد، ساعدت مدرسة تكوين المحافظين السياسيين على الرفع من الوعي السياسي لجيش التحرير الوطني بوضع معركة التحرّر في مسار التاريخ الوطني منه والعالمي، وإعطاء الكفاح المسلح بعدا سياسيا يتّخذ العنف وسيلة لتحقيق أهداف المشروع الوطني وتمسكا بالمبادئ الإنسانية.

وسمحت كل هذه التطورات المحققة على مستوى التنظيم والتكوين والتجهيز لوحدات جيش الحدود بالقيام بالعديد من التدخلات على الميدان، بدء من الدعم وتخطّي الحواجز المكهربة إلى شنّ هجومات واسعة ضد العدو على مستوى الجبهات وأخرى على مستوى مراكزه الحدودية.

وقد ساهمت هذه العمليات في إبقاء جزء كبير من قوات الجيش الفرنسي ثابتة على طول الحدود، وهي القوات التي كانت تتكوّن من وحدات النخبة المتمرّسة والمتدربة على القتال في حروب العصابات ؛ وذلك ما جعل “حرب الحدود” تشكل تدريجيا ميدانا للمواجهة الكبرى، بعد عمليات مخطط شال على كامل التراب الوطني.

وكان تخطّي الحاجز المكهرب من بين أهم الأهداف الإستراتيجية لجيش الحدود الذي كانت مهمته تتمثّل في إيصال الأسلحة والذخيرة إلى الولايات المتضررة من ضربات العدو. وقد دعت الدورة الثالثة لمجلس الثورة للجمهورية الجزائرية إلى هذه المهمة بإلحاح بتسجيل في أولوياتها دخول جنود وضباط جيش التحرير الوطني إلى داخل البلد للالتحاق بولاياتهم الأصلية. وفي هذا يؤكّد خالد نزّار على صعوبة المهمة الكبيرة وعلى التضحيات الجسام المقدمة من أجل تحقيق ذلك، وكانت الخسائرُ في الأرواح تُقدّر في المعدل بثلثيْ تعداد الجنود المعنيين بعملية العبور. ويعطينا الوصفُ المفصّل لتجاوز الحدود عبر خط موريس الذي قام به الكومندو حيدوش بتاريخ 24 جوان 1959 والنتيجةُ المأساوية التي شهدها هذا الأخير، حجمَ صعوبة المهمة التي كانت شبيهة بالمستحيلة. ولم يمنح هذا إلا مزيدا من الاستحقاق لبعض المحاولات الناجحة، على غرار تلك التي قام بها (تطبيقا لقرار مجلس الثورة) العقيد طاهر الزّبيري والرائد أحمد بن شري ؛ كما نجح العقيد لطفي هو بدوره في عبور الحدود، لكنه استشهد ثمة بعد اشتباك مع الجيش الفرنسي ببشار.

كما نجحت بعد ذلك محاولاتٌ أخرى في عبور الحاجز بفضل معرفة دقيقة وشاملة للميدان وتحكّم كبير في تقنيات عزل الخطوط المكهربة ورصد مواقع الألغام والتنسيق الجيد بين أفراد الوحدات القتالية في عمليات تظليل العدو. وكانت مناوشة المراكز العسكرية الفرنسية من طرف المجاهدين على طول خطّ الحدود تشكل النوع الثاني من العمليات التي كان يقوم بها جيش التحرير الوطني للضغط أكثر على الجيش الفرنسي بمضاعفة الهجومات ضد الحصون والآلات المصفّحة. وقد سمح استعمالُ الأسلحة ذات المدى البعيد مثل سلاح الهاون من نوع 106 مم و82 مم وأسلحة بأستون 75 مم و57 مم، والتحكمُ في سلاح المدفعيّة الذي يسمح بالرّمي غير المباشر أو بتجاوز الحواجز، وحتى استعمال أسلحة من نوع 85 مم و122 مم وقاذفات لهبٍ عند نهاية الحرب تقريبا، سمح كل ذلك بزياد قوة جيش التحرير الوطني وقدرته الهجومية ؛ لكن ذلك جعل ردة فعل العدو قوية وعنيفة جدا بتكثيفه الضربات بالمدفعية ضد مواقع جيش التحرير مجبرا أفراده الجاهدين على تغيير نقاط تمركزهم باستمرار وحفر ملاذّ عميقة تحت الأرض للنجاة من وابل القذائف المرماة عليهم. إن “حرب الحدود” قد استحقت تسميتها هذه بجدارة وبالنظر إلى مختلف جوانبها وأهمية الخسائر المسجّلة في المعسكرين.

يعطي السّردُ المفصلُ لعديد الهجومات المسلحة ضد المراكز العسكرية الفرنسية نظرةً عن الوتيرة التي كان يسير عليها تنظيم العمليات على طول خط الحدود الشرقية، مع تصعيد في الدرجة عشيةَ وقف إطلاق النار ؛ وقد تم إطلاق عملية هجومية واسعة بالمنطقة الحدودية من 6 إلى 13 مارس 1962 بهدف احتلال المواقع الحساسة على الميدان بالنظر إلى قروب الاستقلال، وتسجيل جيش التحرير الوطني حضوره العسكري والسياسي في سياق آخر مرحلة من مراحل المفاوضات بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني التي كانت وقتها جارية بإيفيان. وانتهى هذا الهجوم الدّالُ على صلابة موقف القيادة العامة لأركان الجيش إزاء هذه المفاوضات، إلى نتيجة مواجهة موقف المفاوضين الجزائريين.

أما النزاع بين قيادة الأركان العامة والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الذي كان يرتسم حينها في الأفق، فلم يتطرق إليه المؤلف هنا إلا بإيجاز فقط للإشارة إلى حقيقة مرة وهي أن: حرب التحرير الوطني أحاطها نزاعان اثنان داخليان ؛ أما النزاع الأول الذي ظهر داخل حركة انتصار الحريات الديمقراطية في 1953-1954، فقد تمّ تجاوزُه بشكل إيجابي مع اندلاع الثورة المسلحة لأول نوفمبر 54 ؛ والثاني الذي برز عند الاستقلال، فقد ترك آثاره السلبية لتدوم طويلا. لكن المؤلّف لا يريد التمسّك هنا إلا بما هو أهم في كلامه عن الجانب العسكري للعمليات التي قام بها جيش التحرير الوطني والتي شارك في معظمها ؛ تلك العمليات التي وبحكم اتساعها والوسائل البشرية والمادية التي تم توظيفها، تجاوزت أحيانا إطارَ حروب العصابات لتنتهج طرقَ الحروب التقليدية التي تقوم على المواجهة والصدام.

ومعركة سوق أهْراس التي لم يشارك فيها المؤلّف، جاء ذكرها في كتاب هذا الأخير كمثال انطلاقا من شهادات[9] ضباط المعسكريْن اللذين خاضا هذه المعركة غير المتساوية أين كانت موازين القوى تعادل 1 ضد 12 أي في صالح الجيش الفرنسي بطبيعة الحال. وانتهت المعارك التي دارت بمحيط سوق أهراس بتاريخ 28 أفريل إلى 3 ماي 1958 إلى تسجيل خسائر ثقيلة في الأرواح من الجانبين، إلى درجة أن أحد الضباط الفرنسيين الذي شارك فيها قارنها بمعركة فيردون التي وقعت سنة 1916 إبان الحرب العالمية الأولى ضد الألمان.

وكان هذا النوع من العمليات المكلِّف للأرواح البشرية يندرج ضمن الهدف الذي سطّره مؤتمر الصومام والمتمثل في “الثورة الشاملة”، وتكوين الفيالق ذات القدرة على مواجهة القوات العسكرية الفرنسية ندّا للندّ ؛ وما الهجوم الكبير الذي شنّته وحداتُ جيش التحرير الوطني التي بلغ تعدادها ما يعادل ثلاثة فيالق ضد المركز العسكري لعين زانة بتاريخ 14 جويلية 1959، إلا دليل على ذلك. وهو الهجوم الذي نوّهت به جريد “المجاهد” في افتتاحيتها ووصفته بالانتصار التاريخي[10]. لكن الفارق الكبير الذي كان موجودا في موازين القوى العسكرية وجب الرجوعَ إلى إستراتيجية “حرب العصابات” تكون أكثر ملاءمة وتعتمد على تنقلات الوحدات التي تنظّم عملياتها الهجومية بتحركاتها السريعة واستغلال عامل المفاجأة. ولم تكن هذه الاستثناءات ممكنة إلا بفضل الوسائل البشرية والمادية التي كانت تتمتّع بها وحداتُ جيش التحرير الوطني التي كانت تنشط بالحدود الجزائرية-التونسية.

ويقدم لنا المؤلف مثالا على ذلك معركة جبل الحمرة التي شارك فيها والتي جُنّدت إليها ثلاثة فيالق. والحالة الأخرى التي ذكرها أيضا ذلك الهجوم الآخر الواسع الذي نُظم يوم 28 نوفمبر 1960 بقيادة عبد الرحمن بن سالم قائد المنطقة الشمالية، ضد مراكز بورنان والـﭬـوارد والحمري ؛ وهذه العملية الواسعة والمنسّقة بإحكام التي جنّدت إليها ما يعادل ثمانية فيالق لجيش التحرير الوطني مع وسائله المدعّمة، سجّلت نجاحا يستحقّ الذكر شبيها بذاك الذي حققه هجوم الفيلق الـ 19 على مركز خميسات بقيادة سليم سعدي[11].

ومن الطبيعي أن العمليات الهجومية التي ذكرها الجنرال خالد نزّار تقتصر فيما هو أهم على تلك التي شارك فيها والتي يذكرها بدون اعتداديّة أو فخر مبالغ فيه، كما وجدناه يتطرق أيضا إلى الانتصارات المحققة وإلى الهزائم المتكبّدة .. وإلى التخمينات السارة والأخطاء القاتلة سواء بسواء. وفي الجملة فإن هذه الحالات المختلفة لا تعطي سوى نظرة عن الحقيقة وعن حجم  العمليات العسكرية التي قام بها جيش الحدود سواء في الشوق أو الغرب.

وكثيرة هي العمليات التي ساعدت على التخفيف من العُزلة التي كانت تعاني منها الولايات وعلى التشكيك في مناعة الحدود التي كان من المفترض على خطّيْ شال وموريس ضمانها ؛ خطّان مكهربان أنشئا لفرض حرب مغلقة الجوانب قد تجنّب العدو السقوط مرة أخرى في حماقته بل جريمته تلك التي ارتكبها بساقية سيدي يوسف. وكان لهذه الجريمة البشعة التي ارتُكبت ضد قرية تونسية يوم 8 فيفري 1958 أنها ساهمت في التعجيل بتدويل القضية الجزائرية على مستوى المؤسسات والهيئات الدولية وتسببت في سقوط الجمهورية الرابعة بفرنسا. وغلقُ الحدود بالحواجز المكهربة لم يُنهِ مع ذلك الغارات العسكرية الفرنسية على الترابيْن التونسي والمغربي بحجة “حقّ المتابعة” وبما يتلقّاه الجيش الفرنسي من ضربات موجعة من قبل أفراد جيش الحدود. ولم تفتأ الحرب تتجاوز الحدود الإقليمية للبلدان واستثارة الرأي العام الدولي، أو لنقول اتساع ارتدادات وانعكاسات نزاع ذي أبعاد متعدد الأشكال.

حتى وإن كانت شهادة خالد نزّار محصورة في تجربة شخصية، فهي لا تكتسي أهمية تاريخية فحسب، ولكن تمنح أيضا لسرديات المعارك المرواة بالتفصيل حجمَ الأحداث المعاشة وبعدًا إنسانيا لا يمكن تجاهله. وطبيعيٌّ أن الوقائع المرواة يمكنها أن تتقبّلها الكثير أو القليل من الآراء أو لتجادلها أو لتنكرها ؛ لكن المؤلف لا يدّعي القيام بمهمّة المؤرخ ولا بإعطاء إجابات نهائية لبعض التساؤلات، وإنما قام عبر شهادته هذه بواجب الذاكرة التي تهمّ كل الذين شاركوا في المعركة التّحررية. ويمكن للمؤلف من هذا الجانب أن يرى نفسه قد أدّى المهمة ما دام يقدّم مادة تاريخية هامة تساعد المؤرّخين على البحث أكثر في مسائل مختلف فيها مرتبطة بثورة التحرير.

ó       ó        ó

وقد ذهب الأستاذ سليمان الشيخ المعروف بروح المنهجية والدّقة إلى ما هو أهم، وأودّ من جانبي أنا أن أضيف أن: رواية الحياة المعاشة في الجبال مع المجاهدين بالوصف الدقيق الذي يقدمه لنا خالد نزّار في هذا الكتاب مليئة بالحقائق المؤثرة، وتصوّر لنا ما عاشه هؤلاء الرجال.

“كان سيرنا المتواصل ومعسكراتنا القصيرة والفواجع الكبيرة والآلام الصغيرة التي كانت تلازمنا يوميا، لا تترك لنا الوقت حتى نجول بخيالاتنا فيما هو أبعد، وإنما كان أفقنا مباشرا آنيا والخشونة أو القسوة المرسومة على أبصارنا كانت تراقب مناظرنا المحيطة بالحصون المزنجرة وشبكات الأسلاك الشائكة والآلات المحفوفة بحراشف غليظة وتلفظ نارا ؛ وكانت غِبطاتنا ركيكة مبتذلة: ملء إبريق من اللبن، قطعة من خبز الكسرة مع قليل من الدّهن، وساعة من النوم نخطفها على عجل. وقلاقلنا وكروبنا كانت خفية مكنونة، يعاد بعثها في النفس بدويِّ الانفجارات والقذائف وصرير الرصاص. وكانت راحتنا عبارة عن هدوء ولحظات يقلّ فيها الدّوي ؛ وكان المكان الشاغر في الصفّ لصاحبه المغيّب عنا وأنين الرفيق الجريح المخضّب دما والوجوه الغائبة التي تعودنا ملاقاتها في المساء، كل ذلك كان يجعلنا ندرك مدى “هشاشة مآلنا”.

“فكم من رفيق رأيته يموت ثم يُدفن في مكانه الذي استشهد فيه ؟  كنا نحمل موتانا إلى مثواهم الأخير في صمت، ثم نسندهم إلى قبورهم بثيابهم وأحذيتهم، ثم نقرأ عليهم الفاتحة وندعو الله أن يتقبّلهم عنده شهداءَ، ثم نعود إلى مواقعنا بقلوب حزينة والليل من ورائنا قد سبقنا في محو نفخة التراب..”

كان المجاهدون متحمّسين لرؤية يوم الحرية المنتظر طويلا، أو ربما كانوا يعيشون اللحظة إلى اللحظة واضعين كل ثقتهم في النظام: “كانت فكرة الاستقلال لا زالت وهمية. هل سنعيش إلى غاية ذلك اليوم الذي تستقل فيه الجزائر ؟ هل سنذق طعم فرحة الحرية المستردّة أخيرا ؟ لا يهم ! فالحرب هي ها هنا معا ومن حولنا ونحن وقودها، ولكن أيضا لهيبها المشتعل.. وإنَّا لسنا من اليائسين القانطين ممن ضاعت سبُلهم في الجبال”.

وأحيانا تستعيد الحياة مجراها الطبيعي ليمزح الرجال ويضحكون: “ليس صحيحا أن الحياة في جبال الثوّار كانت كلها استعدادا للقتال وإنذارات متواصلة وحذرا ومحنا ونصبا، وإنما كانت الحرب تكفّ عن بطشها وتخبُّ نيرانها لما كنا نحن نريد ذلك. وبرضا من أحد المسؤولين وحسب “الأجواء السائدة”[12]، نقيم لمدة يوم أو يومين على أرض مضاءة وآمنة للقيام بهذه الأعمال الروتينية المتمثلة في غسل الثياب وحلق اللّحى، أو قضاء ساعة من الكآبة المبهمة أو ساعة لاستعادة الذكريات أو ساعة من الحنين. وأحيانا نمزح ونضحك، فيقول هذا لصاحبه مثلا: “هذا المساء ستتلقاها على حقيبتك للظهر”، إشارة لقذيفة المدفعية المقدّرة. لا يهم ما الذي يحدث بعيدا عنا.. ولا يهم الموت !”.

وكانت معاقل المجاهدين الجبلية تتلوّن أحيانا بألوان الجنة بخاصة المنطقة التي كان خالدٌ ورفاقه يقيمون بها ويقاتلون فيها العدو: “كانت الحرب الضارية في المنطقة الأولى بالقاعدة الشرقية تمنعنا من الاستمتاع بالمنظر الخلاب للأنهار والوديان المتدفقة وغابات البلوط الوارفة ذات السكينة والأشجار العالية الكثيفة التي تحمينا أغصانُها ذات الأوراق الخضراء الزاهية من أنظار العدو. وكانت الغيضاتُ ذاتُ النباتات المتشابكة تأوي إليها حيوانَ الأيل (الذي كنا لا نصطاده إلا نادرا) والخنازيرَ البرية والكثيرَ من الحيوانات الأخرى المتوحشة ؛ والعسل الذي يسيل سائغا وافرا من خلايا النحل التي يصنعها الفلاحون باستعمال قشرتين اثنتين من الفلين متصلتين بغطاءين ذوا شكل أسطواني. ويحدث لنا أحيانا ونحن نسير أن نلتقي بسرب من الحجل يلتقط الحبَّ على الأرض مطمئنا فنكفّ عن مطاردته لينطلق محلقا في السماء في حركة مائلة. ولم يعد المجاهدون منذ منتصف سنة 1957 يملكون بندقية صيد ؛ مثلما لم نعد بحاجة إلى الـﭬـورْدات للتزوّد بالماء، فقد كانت الينابيعُ ذات المياه الغنية بالحديد تُبقبق وتتألق لمعانا في جوف الأرض”.

لكنَّ جهنّمَ كانت غير بعيد عنا، ولا شيء دائم على حاله مليئا بالحياة جميلا إذْ كل شيء بإمكانه أن ينقلب دمارا ورعبا بمجرد تشكك العدو من هذه الحركة أو تلك الآتية من هذا المكان أو ذاك: “كان الجيش الفرنسي يستعمل كل الوسائل لتحويل الأقاليم الحدودية إلى مناطق خطيرة يصعب عبورها، وقد تم ملء هذا الفضاء الشاسع الذي يبلغ عرضه حوالي 60 إلى 70 كم المراقب بشدة، بحواجز اصطناعية هجومية ودفاعية: مراكز مراقبة ثابتة (تسمى مراكز القطاع)، حقول الألغام، شبكات الأسلاك الشائكة، حواجز مكهربة، أضواء كاشفة، رادارات، فخاخ بإنذار صوتي، أنظمة التّنصُّت، أسلاك إنذار دقيقة جدا توضع على علو يصل إلى الركبتين وتنصّب دون الخط الشائك ناحية الشرق على بعد يتراوح بين 20 و50 مترا، رادارات كهرومغناطيسية، كازْمات، دبابات في حركة دائمة أو مموّهة، مدافع ذات عيارات مختلفة (20، 40، 75، 105، 155 مم) موزّعة ومتموقعة حسب مدى رميها وبعضها الآخر مزوّد برادارات الرمي، حصون يطل بعضها على بعض يحتمي بها 5 إلى 6 رجال مزوّدون برشاشات من نوع 12/7، دوريات بعربات مدرّعة، كومندو “رؤوس راصدة للحركات”، عناصر للتدخل التي تتنقل عن طريق العربات أو المروحيات”.

وقد عاش جيش التحرير الوطني على هذه الوتيرة إلى غاية الساعة الأخيرة من النزاع. “جعلت الخسائر التي تكبّدناها إلى آخر ساعة من الحرب على الرغم من الضربات التي تلقيناها عند العودة، من 19 مارس 1962 بالنسبة لنا يومَ حداد بقدر ما كان يومَ نصر”. “وضعت الحرب أوزارها وسكت الرصاصُ.. ولم يزل المقاتلون لم يصدّقوا بعد أنه قد انتهت الآن المسيرات الطويلة المضنية بين الدروب الوعرة والشعاب ومنحدرات الجبال، قد انتهت المواجهات والاشتباكات مع العدو، قد انتهى دويّ الرصاص والقذائف والانفجارات.. وكان النّاجون يحملون على وجوههم علامات وآثار التراجيديا الطويلة التي شتتت صفوفهم..”.

والأسطر التي ستتبع ستكون ربما الأجمل من كل ما كتب خالد نزّار، مثلما ستكون الأكثر تأثيرا بكل تأكيد. “تُسدي الشمسُ بأشعتها وهي تغرب على صُهارة وثُفل الجبال الضخمة لونًا أغمر محمرّا، فالغسقُ الذي انطرح على الجزائر في اليوم الذي تلا 19 مارس 1962 كان بمثابة الكفن الذي غطى أكثر من قرن ساده الظلمُ والعنفُ والإهانةُ.. الجزائر فرنسية ! جزائرُ الجرائم الفرنسة، جزائرُ قانون الأهالي، جزائرُ ضريبة الدم، جزائرُ المقصلة ومراكز كيان لم تعد موجودة.. الجزائر فرنسية قد ماتت”.

“أشعر عبر إحساسي الخاص بتلك العواطف الجيّاشة التي اجتاحت قلوب بعض من رجالي الذين كانوا مختبئين هناك وراء جذوع شجر البلوط يبكون، لا شك أنهم كانوا يفكرون في رفاقهم الذين غابوا إلى الأبد.. وجوه لا تُنسى تطلُّ من علياء قممهم، قمم الجبال الشامخات..”.

رجالٌ سياسيّون يسرعون ويتسارعون باتجاه العاصمة في سباق محتدم من أجل الحكم ؛ وتتشكّل الجماعات السياسية: جماعة تيزي وزو وجماعة تلمسان. هل كنا نتّجه نحو اقتتال بعضنا بعض ؟ كانت موازين القوى وقد حسمت الأمر: دخل هواري بومدين وأحمد بن بلَّة الجزائر العاصمة عنوةً بإطلاق النار. ويصف خالد نزّار الحزن الكبير لمقاتليّ المعسكريْن أمام هذه المعارك التي يقتل فيها الأخ أخاه، ويتطرق إلى خيبة الشعب الجزائري الذي حضر عاجزا هذه الأحداث المأساوية.

“وقال الشعب الذي كان أكثر حكمة من أولئك الذين كانوا يطمحون إلى قيادته، قال يومها بصوت عال ما كنا نراه نحن العسكريين شيئا تافها: “سبع سنين بركات”. كنا على الرغم منا فاعلين وصناعا لمأساة تجاوزتنا، والشعور بالضيق والأسى الذي يغمرني في اللحظة التي أكتب فيها هذه الأسطر، هو نفسُه تقريبا الذي انتابني أثناء هذه الأحداث الأليمة ؛ فالعديد من المجاهدين الشرفاء قُتلوا وآخرون انتحروا وبقي آخرون متأثرين بما وقع وقتها مدى الحياة”.

أصبح الآن خالد نزّار يعيش التحوّل الذي جعل من هذا الجندي المحترف المنضبط المطيع للأوامر، كاسرَ التابوهات المستقبلي و”قاطعَ” العقدة الغورديّة ؛ “فمنذ هذه الأيام المأساوية أصبحت لا أثق بالغريزة في “السياسة” التي تدار لاعتبارات أنانية. فقد عهدت نفسي أثناء هذه المسيرة الدموية نحو الجزائر العاصمة بتغليب دائما مصالح بلدي بعيدا عن التجاذبات والاختلافات الحزبية والحسابات السياسويّة، وتذكّرت هذا بعد ثلاثين سنة لما أصبحت في مواجهة خيارات كبرى”.

استُردّت السيادة الوطنية وخرج بومدين منتصرا من فوضى 1962 ؛ والرجال الذين ساعدوه على تخطّي هذه الخطوة الصعبة كانوا على رأس وحدات قتالية متمرّسة وكان هو يثق في نزاهتهم وإخلاصهم له. ولم يكن يحقُّ لهؤلاء الشكُّ فيما كان ظاهرا على نوايا قائدهم: تأسيس جيش عصري يخدم الجزائر. ففي هذه الفترة بالذات بدأ اغتيال ضباط جيش الوطني الشعبي القادمين من الجيش الفرنسي. وسبق لخالد نزّار أن تكلم عن هذه المسألة بصوت عال وكان له ما قال حول الكيفية التي تم بها تلفيق تلك الادعاءات الكاذبة والاستفزازات ضد هؤلاء يوم كانت القذائف تسقط وابلا والرصاص يدوّي صريرا.

لما بدأت اللّعانُ والإداناتُ المغرضة تستهدف جيش الحدود، خرج خالد نزّار حينها إلى العلن متحملا المسؤولية ومواجها الأمر، ويكتب اليوم ما دافع عنه بالأمس قائلا: “كيف وبأي وسائل يمكن للجزائر إعادة بناء ما تمّ تهديمُه، وأين ستجد هؤلاء القادرين على تسيير دواليب دولة قابلة للاستمرار[13]. وهل أخطأتُ لما آمنتُ أن الجيش الجزائري العصري الذي رأيته يولد ويكبر، هو القوة الوحيدة المنظّمة القادرة على وضع حدّ لحالة اللاّأمن التي تستتبع الخروج من الحرب، وعلى توفير للمؤسسات والإدارات المورد البشري الذي يسمح لها بالوجود والاستمرار؟”.

“منذ ما بدأت الثورة تتوسّع، كان التفاعل بين السياسي والعسكري منسجما دائما ؛ فمن كان سياسيا ومن كان عسكريا خلال الوقت الذي استغرقه النزاع الجزائري-الفرنسي ؟ فكل أعضاء جبهة التحرير-جيش التحرير كانوا يتحرّكون ضمن فكرة سياسية للغاية وبالمعنى التام والتفضيلي للكلمة، ولم يكن معظمهم عسكريا إلا على ضرورة، وبهذا الشكل كانت مكانة الجيش في الأمة التي كانت تعيش حربا تؤسس للصرح السياسي-الإداري للثورة (النظام). فمن هذا الذي كان على الجزائر المستقلة أن تنتظره ليخلصها من محنتها من غير الجيش الوطني، بإفراغ الشعار المتكرر على الدوام “أولوية السياسي على العسكري” من معناه ؟”.

لا يهم، فالأولوية كانت لبناء جيش عصري سيساهم فيه خالد نزّار بقوة وبداية تحت قيادة هواري بومدين. وفي الفصل الثالث من الكتاب الأول، يروي المؤلف كيف وقفت الجزائر وجيشها قبل خمسين سنة إلى جنب الإخوة المصريين في الأوقات الصعبة من تاريخ مصر لما وضعت جسامةُ الخسائر -بعد حرب الستة أيام- وألمُ الإهانة الشعوبَ العربيةَ في حداد.

تفاصيلُ لم تُنشر وإيضاحاتٌ جديدة يطلعنا عليها المؤلّف. وقف الجيش الوطني الشعبي بجبهة القتال بقناة السويس ندّا للندّ أمام القوات الإسرائيلية وبرهن على شجاعة وبسالة أفراده الجنود والضباط والطيّارين الآخرين الذين كانوا يحلّقون بطائراتهم الحربية في سماء جبهات القتال مثل النّسور ؛ وقد اعترف الإسرائيليّون على لسان أحد جنرالاتهم بقوة وحنكة الفرق الجزائرية العسكرية. وفي سياق الحديث عن هذه الحرب يتطرق المؤلف إلى الاختلاف في وجهات النظر التي كانت بين جمال عبد الناصر وهوراي بومدين.

وبصفته عُيّن مسؤولا أولا في هيئات الجيش لإفادة القوات المسلحة الجزائرية بخبرته من حيث التنظيم والتدريب اللذين كانت هذه الأخيرة بحاجة إليها بعد عشرية كاملة من “الركود”، أبدى خالد نزّار صرامة والتزاما كبيرين في تنفيذه هذا المهمة ؛ وأهّله عملُه على رأس القطاع العماليّاتي بتندوف ثم قائدا على الناحية العسكرية الثالثة التي كانت الأكثر تزوّدا بالوسائل وقطبا تخرج منه معظم إطارات ووحدات الجيش الوطني الشعبي، لأن يكون الرجل المناسب لإنجاح عملية إعادة المفْصَلة المستقبلية للجيش الجزائري.

توفي هواري بومدين ثم خلفه الشاذلي بن جديد رئيسا على الجمهورية الجزائرية، وأعطى هذا الأخير الأولوية للجيش. وبمجرد ما تم تعيينه مسؤولا على تنفيذ الإصلاحات والتغييرات المقرّرة، أصبح خالد نزّار هدفا للجماعات ذات التركيبة الفئوية والعشائرية. ومع ذلك نجح في إبعاد -باحترام وصراحة ووجاهة- عدد من الإطارات بالرغم من كونهم كانوا قريبين من النظام، وقد فعل ذلك تبعا لما كان معمولا به في البلدان المتقدّمة.

وكانت إعادة الهيكلة تقوم أساسا على مركزيّة القيادات على مستوى القيادة العامة لأركان الجيش، وعلى إنشاء مجموعات كبيرة موحّدة الأطر قادرة على القيام بعمليات ميدانية مشتركة ومنسّقة بفضل قدرات المناورات المتزايدة ومحطات القيادة المتسلسلة وأنظمة تواصل مكيّفة.

وكان لتوحيد القيادة نتائج إيجابية مباشرة، ومن ذلك توحيد مختلف قيادات الأركان وانسجام طرق مقاربة المشاكل والصعوبات حسب مخطّطات عصرية وفعّالة ؛ كما ساعد على إنشاء مجموعات تعدادية كبيرة وساهم في كسر نهائيا “الإقطاعات” الجهوية التي تأسست خلال عشريتين كاملتين. وقد سمحت وحدة القيادة هذه للجيش الشعبي الوطني بفضل إعادة إحياء القيم التي آمن بها جيش التحرير الوطني، بأن أدرك بأنه لا يمثّل فقط الحارس والحامي اليقظ لوحدة التراب الوطني، وإنما أيضا الضامن لاستمرار الدولة الجمهورية المرتبطة بالعصرنة والحداثة. والصور التي يرسمها عن صنّاع الثورة الكبار أو عن الجيش الشعبي الوطني تتميّز بالدقة والرفعة والسّمو، ومن ذلك يذكر أصحاب “الباءات الثلاث” الذين قال فيهم مقتبسا المقولة المشهورة لونستون تشرشل: “Never in the field of human conflict was so much owed by so many to so few ” (لم يشهد أبدا تاريخ الصراعات البشرية من قبل أناسا كثيرين مدينين كثيرا لأناس قليلين).

ويرى هواري بومدين، طاهر زبيري، محمد شعباني أو الشاذلي بن جديد كما هم بالصّفة التي يعرفهم عليها، في الوقت الذي نرى فيه التّأججات المحيطة تخدِّد الوجوه وتضمِّرها. بينما جاء وصفُ شخصيات أخرى بقليل من الاهتمام، لكن ولا أية كلمة اعتدائية خطّها للمساس بكرامة هؤلاء الرفاق: محمد سعيد ناصر، عبد الحميد لطرش أو الضابط بوعنّان.

وتطرّق خالد نزّار بالتحليل إلى إرهاصات أكتوبر 1988 والأحداث الدامية التي شهدها خريف هذا السنة، والتي يعزي أسبابها لحكومة الشاذلي.

مرّ الوقت سريعا. فكان من شأن معترضات الأحداث السابقة المترتّبُ بعضها إلى بعض بنوع من السُّعر الفوضوي، أن قلّصت وأخلت بالروابط مع عديد عائلات الضباط ؛ هذا الربط المفقود الذي وجد خالد نزّار صعوبة كبيرة لإصلاحه، ولكن هذا ليس  من أجله هو شخصيا للأسف. ونجده في الجزء الأول من هذه المذكرات الذي يلخّص فيه جانبا كبيرا من حياته لا يتكلّم عن “النادي الثاني”، النادي العائلي الذي ذكره في سياق حديثه عن سنوات بسكرة ؛ فلم يرَ رجلُ الواجب المرتبطُ والمنشغلُ دائما بمهمَّة عاجلة أو أوّلية أبناءَه يكبرون أمامه، ولم يُمكنه أن يكون حاضرا بجنبهم إلا في الوقت الذي تُجبره فيه أحدى فواجع الحياة على الذهاب لرؤيتهم لفترة قصيرة.

لقد ترك رحّال إرثا لهذا الابن الذي علّق عليه كل آماله، إرثا قائما وماثلا على النزاهة والتضحية ؛ وورّثه على وجه الخصوص حنانا مؤثرا ولكن مفعم بالحياء والتحفظ، وذلك الحنان نفسه سيحيط به خالد أبناءه هو بدوره ؛ ولكن كان عليه أن ينتظر خروجه على التقاعد ليعيش هذا الشعور مليئا.

رمضان 2017. يستقبل خالد صديقا من سوريا كان في زيارة إلى الجزائر العاصمة، فدعاني لحضور اللقاء بفندق الأوراسي. وعلى الشرفة الواسعة للفندق المطلّة على خليج مدينة الجزائر الجميل، يتطرق بالذكر للملاقاة مع أصدقائه وأحبائه الذين عرفهم بلمْتارس العميقة بمناسبة زواج ابنه الثاني.

فأثناء زواج الابن يعيد الوالد العطوف ربط أواصر أصوله التي يجدها الآن دافئة ويتركها تعبّر عن نفسها في جوّ بهيج من الرقص والغناء. وها هي عائلة خالد والعائلة الأخرى القريبة ملتحمتان في خضم الأصالة التي تجمعهما، ناسيتان كل تلك الخلافات والاختلافات القديمة التي تسببت على مدى عشريات في التفرقة بين الآباء وزرع بذور الفتنة وروح الانتقام. فلم يعد الابنُ الضّال الذي نجح بقوة العزيمة والانضباط والمثابرة ينتمي إلى الدائرة المقاسِ محيطُها بطول عمامة واحدة، والكل حول القمة الأصلية وجد عنده فضائله الخاصة ؛ هكذا تولّدت الهالة التي حوّلت الوجه إلى صورة والاسم إلى لقب للعائلة.

والسردُ الخاصُّ بسنوات القرية التي روى حكاياتها في هذا الكتاب هي في الغالب مُفرغةٌ من الأُحدوثات، فبعد إعادة القراءة والمراجعة حذف منها عددًا، لكن يبقى البعضُ منها جديرًا بالحكيّ. أحدوثاتٌ وحكايات تصوّر حجم الأب رحّال، الرجلِ التقيِّ الخيّرِ ذي العقل الرّصين حتى في أدقّ التفاصيل. وقد حكى لي خالد هذه الحكاية في الوقت الذي كانت تريد فيه ضجّة إعلامية غريبة قبل أشهر قليلة أن تنال منه ومن أقربائه بنشر وقول ما ليس هو بحقّ ؛ وتستحق هذه الحكاية أن أختم بها هذه المقدمة التي أمست طويلة كما ترون: “كنت أصاحب والدي إلى السوق في مواعيدها الكبيرة وهو ماسك بيدي بشدة. أتوقف معه لما يوقفه الجبليّون للحديث عن طقس اليوم والغد أو عن موت قريب هناك في أعلى الجبل. وفي صباح أحد الأيام لما كنت معه، رأيت فجأة عبر فُرجات سيقان الفلاحين وﭬـناديرهم ورقة نقدية بقيمة 100 فرنك على مجرى الساقية الجافة ولا أحد رآها، فحرّرت يدي من القبضة وأسرعت لالتقطها ثم عدت إلى والدي الذي ظهر لي متحيّرا مرتبكا وهو يراني أخفي المال في جيبي ؛ حينها انتابني شكٌّ: هل سيذهب إلى الـﭬـايد المكلّف بالأشياء المفقودة، برَّاح القرية؟ “يا ناس! يا سكان القرية ! الله ايسَمَّعْكُمْ بالخير.. ابن رحّال وجد ورقة نقدية بقيمة 100 فرنك، جديدة وكبيرة ومُبرقشة مثل زربيّة النّمامشة (وكان ذلك يعدّ مبلغا كبيرا في ذلك الوقت)”. ولا شك أن خشية والدي من أن ذلك سيخلق فتنة بين المدّعين منعته من المضيّ في الفكرة التي قرأتها على عينيه ؛ فجرّني معه باتجاه متسوّل كان يبدو أعمى وفي حالة مزرية جالس على الأرض، ثم أمرني بالذهاب إلى الدكان المقابل لصرف الورقة النقدية إلى قيمتين متساويتين، ثم قبض المبلغ بيده وراح يقسّمه 50 فرنكا للمتسوّل والـ 50 الأخرى لي، جزاء مشروعا بحكم الصّدقة. وفهمت لاحقا سلوك والدي هذا: “يا بُني، لا يجب أن يتغلّب نصيبُك من هذه الدنيا على ضميرك”. ونزّار لم يأخذ أبدا حقّ أحد ولا حقّ بلده وهو يعتلي أعلى المناصب في الدولة.

 

 

معارفية محمد

ترجمة عبد السلام عزيزي

[1]  يحدّ سلسلة بلزمة الجبلية من الشمال جبالُ الحضنة وبوطالب. وتضمّ جبالَ اوْلاد سلطان (شمال جبل ماك ماهون سابقا) وجبالَ اوْلاد شليح والشلعلع ومستاوة والرفاعة (سابقا مركز مراقبة للمنطقة 3 للولاية الأولى التاريخية). كل الدوّار والمداشر التي كانت محيطة بسريانة كانت مراكز ونقاط التقاء لأفراد جيش التحرير الوطني”: الجراسعيدي، بوياخفاون، لحلايمية، عين عليّ، ﭭـرﭭـور، العين الحمراء، كتامي، بتيت، لمتَارس، لقلالات، جرما، تاﭭـا، صْحاري…

[2]  جاء كتابه الأول “Mémoires du général Khaled Nezzar” [مذكرات خالد نزّار] الذي صدر في 1999 ثم 2000 بدار الشهاب بالجزائر، في نفس الوقت في شكل تاريخ حياة وتأريخ لاضطرابات شهدتها الجزائر سنوات التسعينيات.

[3]  صادق مجلس الشيوخ الفرنسي أثناء جلسته المنعقدة بتاريخ 10 جوان 1999 على استبدال عبارة “العمليات العسكرية المنظمة بشمال إفريقيا” بعبارة “حرب الجزائر” وبـ “المعارك بتونس والمغرب”، للتمييز والتفريق بين حالة الجزائر وحالة البلدين الآخرين للمغرب الكبير. وقد خصّت التعديلات المادتين 1 و5 من قانون المعاشات العسكرية الخاص بمعطوبي وضحايا الحرب.

[4]  تحت قيادة العقيد ناصر (محمدي السعيد).

[5]  تحت قيادة هواري بومدين.

[6]  التي ظهرت استقالة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية الممثلة في رئيسها فرحات عباس يوم 10 جويلية 1959.

[7]  منها على وجه الخصوص المصادقة على النّصين المؤسسيين المتعلقين بـ “المؤسسات المؤقتة” و”القوانين الأساسية لجبهة التحرير الوطني”، وكذا إنشاء “لجنة الحرب ما بين الوزارات” تتكوّن من الوزراء الثلاثة في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية: كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال.

[8]  بمساعدة الرّواد سليمان (قايد أحمد) وعلي منْجلي وعز الدين (رابح زراري).

[9]  جاء ذكر هذه المعركة في أحد فصول كتاب إبراهيم العسكري بعنوان : “لمحة من مسيرة الثورة التحريرية الجزائرية ودور القيادة الشرقية”، دار البعث، قسنطينة، 1922، ص. 184-186.

[10] أرجع إلى جريدة “المجاهد” في عددها 46 بتاريخ 20 جويلية 1959 التي نشرت بهذه المناسبة البيان بتاريخ 16 جويلية 1959 بعرض حصيلة هذا الهجوم الكبير وكذا تصريح الرائد إزير للصحافة. ويجب التذكير هنا أنه بمناسبة هذه المعركة استعمل جيش التحرير الوطني لأول مرة أسلحة البازوكا وعيارات من نوع 57 مم لا تنسحب إلى الوراء.

[11]  الذي نشر شهادته بجريدة Le Matin بتاريخ 29 و30 نوفمبر 2000 تحت عنوان: “Il y a quarante ans, la bataille d’El-Hamri. Récit de combat” [الذكرى الأربعون لمعركة الحمري].

[12]  كان “الجو السيئ” بالنسبة للمجاهد يتمثل في تخطيط العدو لعملية عسكرية يستعمل فيها وسائل تفوق إمكاناته الخاصة.

[13]  لم تكن الجزائر سنة 1962 تحصي سوى بعض العشرات من الطلبة الجامعيين، ولم يكن يوجد سوى جامعة وحيدة على مستوى كل التراب الوطني.

الفصل الأول

جروح الذاكرة

سريانة (تسريانت بالأمازيغية) بلدة صغيرة تطل من أحد سفوح جبل مختار في جبال بلزمة على بعد بضعة كيلومترات شمال غربي مدينة باتنة. تضم سلسلة بلومة الجبلية التي يصل ارتفاعها 2100 متر، كلا من جبال أولاد سلطان، (شمال ماك ماهون سابقا)، وجبال أولاد شليح وشلعلع ومستاوة ورفاع (مركز قيادة الناحية الثالثة للولاية الأولى التاريخية). يحد سلسلة بلزمة من الشمال جبال الحضنة وبوطالب. في قلب هذه المنطقة وتحديدا في دوار تلات، ولدت ذات يوم من شهر ديسمبر عام 1937.

تصدى سكان بلزمة وتلات لكل الغزاة الذين حاولوا إخضاعهم والسيطرة عليهم. فشيّد البيزنطيون قلعة كبيرة في المنطقة، استخدمها من بعدهم الأغالبة في أواخر القرن التاسع. وفي وقت لاحق، أقام الأتراك حامية لهم في هذه القلعة القديمة لرصد تحركات الأهالي. في 1867، وعند وصول رتل عسكري فرنسي إلى هذه المنطقة لمعاقبة سكان بلزمة، لقي مقاومة شرسة ومستميتة من قبل الشاوية المصممين على الدفاع عن أرضهم. كان  جبل مستاوة وهو هضبة صخرية تحيط بها المنحدرات الشاهقة، مسرحا لكثير من المعارك التي هزم فيها الغزاة في أغلب المرات. وعندما اندعلت ثورة المقلراني[1] لتعم وسط الشرق الجزائري، دخل دوار التلات في المقاومة من جديد. ففي عام 1871، منيت الحملة العكرية الفرنسية بقيادة الكولونيل آديلير الذي كان قائدا على الفرقة العسكريةوماريي التابعة لحامية قسنطينة، بالفشل أمام أهالي تلات الذين تحصنوا مجددا في قمة عش نسورهم. كما دفع فرقة زواف الثالثة بقيادة الكومندان هيرفي[2] الثمن غاليا في سفوح الجبل المنيع.

في الستنينات، وبينما كنت في زيارة عائلية لبضعة أيام إلى سريانة، أخبرنا شقيق الأكبر أثناء الحديث أن الفرنسيين عند رحيلهم غداة الاستقلال، عثروا خلال نبشهم لرفات موتاهم في مقابر المنطقة على هياكل عظمية لا تزال قطع من اللباس العسكري ملتصقة بها لعناصر الزواف يعرف عليها بلونيها الأزرق والأحمر. تندرج هذه الانتفاضة الشعبية في هذه الجهة من الأوراس ضمن سلسلة الاتتفاضات التي هزت الجزائر منذ عام 1830. ولقد استغرق الغزاة أربعين سنة لبسط سيطرتهم على الجزائر، لكن بأي ثمن؟

ولكي نفهم سر انتشار ثورة أول نوفمبر 1954في خلال أشهر كالنار في الحطب اليابس، ولمعرفة مدى إصراررجال جيش التحرير وضراوة معارك حرب التحرير، يجب ألا يغيبرعن أذهاننا بأن الجزائريين لم ينسوا أبدا بأن هناك قوما غريبا عنهم أخذ أرضهم بعدما أخضع آباءهم بالحديد والنار. ولعله من المفيد في الوقت الذي لم يحتفظ بعض المحنّين للجزائر الفرنسية في ذاكرتهم الخائبة سوى المدرية والمستسفى والطريق (“الحضارة”) أن نذكّرهم بإنجازات أولائك الذين كرّموهم بإطلاق أسماءهم على مدن وقرى وشوارع بلدنا.

وقد استخلص مصطفى خياطي، مؤلف كتاب “الجزائر، الطفولة المجروحة”، وهو يبحث عن جذور العنف الحالي في الجزائر، أن السبب العميق يرجع إلى الآلام التي تحمّلها الجزائريون خلال الليل الاستعماري الطويل. وأضيف من جهتي أن هذه الجروح القديمة التي لم تندمل رغم مرور عشرات السنين تفسر لماذا كان شعار رجال جيش التحرير: النصر أو الموت”.

عرف الجزائريون بعد صدور قانون الأهالي عقودا من الهدنة. فلم يعودوا يقتلوا لأدنى حركة غضب، لكن قساوة الظروف المعيشية وألوان الظلم التي ذاقوها كانت تحي دائما في ذاكرتهم الفظائع التي عاشوها. وكانت ذكريات السنوات الرهيبة تحييها أيضا حكايات القدماء.

يقول مصطفى خياطي، مستشهدا بهابارد، وهو يتحدث عن هذا الماضي الأليم: “لم تعرف أجيال جزائرية متتالية، سوى العنف أسلوباً للحياة. وقد ارتدى هذا العنف أشكالاً متنوعة… العنف الجسدي، مصادرة الممتلكات والأراضي، الأمية، الأمراض، الفقر، الإذلال…”.

خلال الثلث الأول من الحقبة الاستعمارية، اتخذ القمع صفة حرب الإبادة الحقيقية، وهذه بعض الأمثلة.

كانت المجزرة الأولى من ارتكاب الماريشال كلوزيل[3]. وقد جرت في البليدة. يقول المذكور: “لقد أمرت الفيالق بتدمير وحرق كل ما يصادفونه في طريقهم”. في مكان آخر، وبناء على أوامر الدوق دو روڨيڠو، تم ذبح كل أفراد قبيلة عوافية في مضاربهم بالحرّاش. وقد وصف پيلسييه دو رينو ذلك قائلاً: “تم قتل كل ما كانت تدب فيه الحياة، ونقل كل ما كان صالحا”. كان ب. كريستيان سكرتير بوجو قد كتب عن هذا الموضوع: “بناء على أوامر الجنرال روفيڨو، انطلقت من الجزائر العاصمة، ليل 6 أفريل 1832، وحدة مقاتلة، واستغل وجود أفراد قبيلة عوافية نياماً، فأقدم أفراده على ذبحهم عن بكرة أبيهم. ولدى عودتهم من تلك العملية المخزية، حمل الفرسان رؤوس ضحاياهم على أسنّة رماحهم. ثم عرضت الغنائم الدامية في سوق باب عزّون. كانت ترى الأساور معلقة على المعاصم المقطوعة، والأقراط على الآذان المجدوعة. وبيعت كل الماشية لممثل القنصلية الدانمركية”. (م. هابارد 1960).

أبيدت قبائل حجوط – وهو تجمع سكاني متكوّن من ثلاث وعشرين قبيلة تستطيع تجنيد إثني عشر ألف مقاتل – خلال خمس سنوات متواصلة. وقد كتب توكفيل سنة 1840: “على امتداد سهل يوازي مساحة الألزاس، لم يبق هناك منزل أو إنسان أو شجرة”.

في تقرير كتب سنة 1839، كتب بيجو[4] هذه الكلمات: “صمّمت على تدمير قبيلة الفليسة، دحر القبائل وتكبدوا خسائر فادحة. شوهدت صفوف طويلة من القرويين وهي تحمل جثثهم على أكتافهم”. (تاريخ المغرب المعاصر).

في كتابه “الجزائر الخارجة عن القانون”، (ص 32) ختم مير دو بانسونيير، رئيس اللجنة البرلمانية المختصة بإفريقيا، تقريره المرير بمايلي: “لقد أصدرنا أحكامنا على رجال يعتبرون قدّيسين في بلادهم، ومبجّلين لأنهم يتميّزون بقدر من الشجاعة دفعتهم للتصدي لهياجنا، وللدفاع عن مواطنيهم البؤساء. لقد وجد قضاة للحكم عليهم، ورجال متحضرون لإعدامهم. لقد فاقت وحشيتنا وحشية من أدعينا أننا ذهبنا لتمدينهم”.

دائما حسب ما قاله م.هابارد (1960): “لقد دوّن بوجو الصفحات الأكثر دموية من تاريخ الاستعمار. أقام حكم السيف. أرتاله الجهنمية الستة التي كانت سنة 1846 تتألف من 108 آلاف رجل كانت مكلفة بمنع العرب من الزرع والحصاد والرعي… باختصار، كانت تنفذ سياسة الأرض المحروقة”. وقال هو نفسه في معرض شروحه لعمله: “إنها الحرب المتواصلة حتى الإبادة”.

ويتابع هابار نفسه: “لقد تكررت مشاهد الرعب طوال تلك الحقبة. تولى الجنرال جوزيف[5]، غرس الرؤوس المقطوعة على امتداد أسوار عنّابة، فوق خوازيق مزينة بالأعلام المثلثة الألوان. وكانت تكررت مثل هذه المشاهد في كل مكان تقريباً”. وكتبت جريدة لومونيتور”Le Moniteur”: “شاهدنا ثمانية وأربعين رأسا ًعلى رؤوس الحراب، لدى دخولنا إلى معسكر الجزائر العاصمة. كانت خزينة الدولة تدفع للعسكريين لقاء كل زوج من الآذان المقطوعة. وقد وجدت أكياس مليئة منها داخل خيم الجنرالات”.

الخنق بالدخان، كان أحد أشكال القتل الذي اعتمده الجيش الفرنسي ضد الشعب الجزائري. وكان يغطي على تلك العمليات الجنرال بيجو. أشهرها هي المحرقة التي جرت في مغارة الظهرة. بتاريخ 19 جوان 1845، قام العقيد بيليسيي بحرق قبيلة فراشيش وهي فرع من أولاد رياح، لجأت إلى إحدى مغاور نكمارية، هرباً من القوات الاستعمارية. فمات 1500 شخص – منهم رجال ونساء وأطفال وشيوخ – اختناقاً بالدخان داخل تلك المغارة.

بتاريخ 12 أوت 1845، أي بعد أقل من شهرين على تلك الإبادة، ورغم ردود الأفعال التي أثارتها في فرنسا، أقدم العقيد سانت آرنو على جريمة مماثلة بحق قبيلة سبيحة، في مغارة تبعد حوالي المئة كيلومتر عن الأولى، قرب شعبة البير. وكان الضابط المذكور قد وصل إلى الجزائر سنة 1847، وغادرها بعد ذلك بعشر سنوات، برتبة لواء.

هناك محرقة أخرى، أقل شهرة ولكن ليس أقل وحشية من الحالتين السابقتين، تمت على يد الجنرال كافانياك. ولقد جرت في منطقة الظهرة ذاتها.

وقد علق توكفيل على تلك الأحداث، سنة 1846، بالقول: “لقد جعلنا المجتمع الإسلامي أكثر فقراً وتفككاً وجهلًا وتخلفاً مما كان قبل دخولنا إليه”.

أمّا بودريكور، الذي شارك في احتلال الزعاطشة بتاريخ 26 نوفمبر 1848، فقد بقي متأثراً بوحشية أبناء بلده: “اندفع جنودنا (الزواف) منتشين بنصرهم، بهياج مجنون نحو الضحايا البؤساء الذين لم يقووا على الفرار. هنا، كان أحدهم يقطع ثدي إحداهن لمجرد العبث، وكانت المسكينة ترجوه الاجهاز عليها للخلاص من الألم، قبل أن تفارق الحياة بعد قليل غارقة في آلامها. وهناك، كان جندي آخر، يمسك أحد الأولاد من رجليه ويلوح به، ثم يحطم رأسه على الجدار. وفي أمكنة متعددة حصلت أعمال مشابهة لن تستطيع فهمها سوى النفوس المنحطة ويخجل من ذكرها أي آدمي”.

يروي ج. دراك[6] وش. أندري جوليان[7]، ما شاهداه، سنة 1958: “كان هناك عشرات الأشلاء، منها أشلاء بوزيان البالغ من العمر 75 عاماً، وابنه في السادسة عشر، أمر بذلك الجنرال هيربيون، قائد فرقة قسنطينة. تم إرسال رأسي الضحيتين، مع رؤوس أخرى، إلى الجزائر العاصمة ثم إلى المتحف البشري في باريس حيث عرضا حتى العام 1967، بعد تحنيطهما بمادة الفرمول. في ذات الحادثة قطعت عشرة آلاف شجرة نخيل من جذورها”.

يقول آلفريد نامنت في كتابه: “لقد أثارت استماتة الزعاطشة في المقاومة حفيظة الزواف[8]. بقي انتصارنا مشوبا بالتجاوزات والجرائم […] لم يحترم أي شيء، لا الجنس ولا السن. فالدم والبارود وجنون القتال ولّد هذه النشوة الرهيبة في القتل التي لم تعد أمامها حقوق الإنسان المقدّسة والرحمة والقيم الأخلاقية موجودة. كان هناك أطفال سحقت رؤوسهم على الجدار أمام أمهاتهم. نساء تعرضن لكل أنواع الإذلال والتعذيب قبل أن ينلن الموت الذي طالبن به بأعلى أصواتهن ليخلّصهن ممّا هن فيه. ولقد ركزت النشرات العسكرية على الأثر الذي تركه في كل واحات الصحراء نبأ تدمير الزعاطشة، الذي انتشر بسرعة البرق بكل تفاصيله المفزعة. […] “. تاريخ غزو الجزائر، ص. 298-299.

من بين سنوات البؤس والعذاب، كانت أعوام الفترة الممتدة من 1866 إلى 1870 هي الأكثر سواداً بتاريخ الجزائر. لم تؤد حرب القرم (Crimée) إلى تفريغ مخازن الجزائريين فحسب، بل أدت إلى هلاك عشرات آلاف الجنود الجزائريين. وقدر عدد الذين اسرهم الألمان بأكثر من عشرة آلاف. إضافة إلى كل تلك النكبات التي زادت من هشاشة الأوضاع الجزائرية، شهدت الجزائر مأساة بقيت محفورة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري. إنه عام المجاعة الكبرى، “عام الشر”، الذي قضى خلاله مئات الآلاف جوعاً.

عيَّن تيير الأميرال ڤيدون[9] حاكماً جديداً على الجزائر، وطلب منه: “معاملة الجزائر كما عومل رجال الكومونة (Communards) [10]“. أعطت انتفاضة المقراني في منطقة القبائل وبومزراق وبن شوشة في الإقليم الوهراني، الفرصة للجيش الذي لقي الهزيمة في سيدان على يد البروسيين، ليشفي غليله بذبح السكان الذين نهشت المجاعة أجسادهم.  وكتب ج. ڤارنياج بهذا الصدد: ” أطلق الجنود الخمسة والثمانون ألفا المنقولين على عجل من فرنسا، إضافة إلى الجنود الموجودين هنا والمعمّرين، عنانهم على الفلاحين العزل ونكلوا بهم بصورة لا توصف، وأعدموا من دون محاكمة: كما حصل خاصة في عين ياقوت. وكان ذلك حدثاً قلما شهدنا مثيله”.

دشنت الجمهورية الثالثة عهدها في الجزائر بالحديد والنار. حتى يستفيدوا من “المبادئ الديمقراطية الجديدة” أخضع الجزائريون لأحكام ثلاثة: “بصفتهم طرفاً في الحرب، كان عليهم المساهمة بدفع ضريبتها، وبلغت حوالي خمس مليارات سنة 1955، وبصفتهم مواطنين أصليين، صودر حوالي 500 ألف هكتار، من أخصب الأراضي… وأخيرا، بصفتهم مواطنين فرنسيين، أرسل منهم الآلاف، بعد إدانتهم كمجرمين، إلى كاليدونيا الجديدة[11].

وأدت حملات القمع التي أعقبت المظاهرات السلمية في 8 ماي 1945، إلى مقتل 45 ألف جزائري!

وتحوّلت تسريانت إلى باستور…

في عام 1864، قام رتل عسكري فرنسي بوضع الحجر الأساس لقرية كولونيالة على موقع لميجيقا Lamiggiga. القديمة، بعدما اجتاح المنطقة (يسمي الجنرالات الفرنسيون ذلك “فرض السلم”). يروي ستيفان قزال. [12] Gsell اكتشاف نقش حجري مكتوب بالحروف الليبية، ما يدل على ماضي تاريخي عظيم. وكان المهاجرون الذين يقصدون الجزائر لمزاياها وخيراتها، يبنون منازلعهم بالأحجار المأخوذة من آثار تلك المدينة العريقة. وكانت المستثمرة التي استفادوا منها، والمأخوذة من أراضي الوقف التابعة لدوار تلات[13]، تتكوّن من قطعة أرض حضرية صالحة للبناء تتربع على مساحة قدرها أل متر مربع، ومن بستان مساحتها 20 م2، وهكتار من أراضي تغرس فيها الكروم ومزرعتين تشكلان في المجموع ما بين 35 و40 هكتار.

بموجب القرار الذي أصدره حاكم الجزائر العام، جول كامبون[14]، عام 1893، أصبحت تسمى “باستور”، ملغيا بذلك ثلاثة آلاف سنة من التاريخ.

واضطر “أهالي” سريانة، الذين لم يطلب أحد رأيهم، لتبني اسم هذا “المحسن للبشرية”. وفي الأماكن الأخرى، قام القادمون الجدد، ربما ليجعلوا صفير السيوف ولعلعة الرصاص يرنان إلى الأبد في آذان المهزومين، بنقش أسماء “أبطال” آخرين على واجهات قرانا وشوارعنا، أبطال السيرة الاستعمارية الذين رأينا بعض إنجازاتهم في الصفحات السالفة: بوجو، كلوزيل، سانت آرنو، بوبراتر، مارغريت، يوسوف،كافينياك وبليسيي، وغيرهم. وكان يوم الاستقلال يوما لإعادة الأمور إلى نصابها. فحل اسم “سريانة” محل “باستور” على اللوحات العمومية. وأسقط التمثال النصفي ورمي فوق الأرض وانهمر عليه وابل من الطلقات النارية بجنون، لكن عقلاء المدينة أعادوه إلى مكانه،مكانه الطبيعي، وهو العلم والمعرفة، ليس إلا. وهو لا يزال يتربع إلى اليوم فوق منصة ترعاها البلدية داخل حديثة عمومية وسط أحجار أثرية عليها نقوش قديمة تشهد على ضحالة وهشاشة انتصار السيف عندما يدعّي بسط سلطانه الجائر إلى الأبد. كانت رسالة باستور التي وجّهها إلى أبناء سريانة، تقرأ في كل ذكرى وفاته ويتولى ذلك معلّم المدرسة. وكانت هناك جملة منها بقيت نحفورة في ذاكرتي: “إن مجرد التفكير بأن اسمي يستطيع أن يغرس في روح طفل بذور الوطنية يهز قلبي…” اسم أجنبي، وإن كان عالما كبيرا، يمحو اسم تسريانت، هل من طريقة أفضل لبث روح الوطنية في نفس فتى جزائري سلب منه تراثه؟ السريانيون وبعدما أنقذوا تمثال باستور وأعادوه فوق منصته، انطلقوا مثل رجل واحد لتفكيك النصب التذكاري.

[1] الشيخ محمد المقراني  أو محمد بن الحاج أحمد المقراني، وبالقبئالية : الحاج محند ناث مقران، هو أحد قادة الثورات الشعبية التي شهدتها الجزائر في القرن التاسع عشر بعد الغزو الفرنسي  للجزائر عام 1830. ولد عام 1815 وتوفي عام 1871. المصدر : وكيبيديا.

2 رقي فيما بعد إلى رتبة جنرال، وتولى منصب حاكم باريس، وقاد جيش إفريقيا.

1 برتراند كلوزيل (12 سبتمبر 1772-21 أفريل 1842) رقي إلى رتبة مارشال فرنسا على يد لويس فيليب، أقام في الجزائر مرتين، المرة الثانية كحاكم عام (المصدر : وكيبيديا).

ـ آن جان ماري سفاري (1774-1833)، رقي إل منضب دوق روفيغو على يد نابليون الأول في عام 1808. (المصدر: وكيبيديا).

[4] في بلاد القبائل لا تزال الأمهات إلى اليوم، عندما يريدن إلزام أي طفل مشاغب الهدوء يخوّفنه بإحضار “بوجو” هذا الاسم (Bugeaud) المرادف للرعب عبر عقودا وقرونا من الزمن. كان المارشال الكبير، الذي يحتفى به كبطل في السيرة الفرنسية للاستعمار بصورته التي تمثل “قبعة الأب بوجو” وصورة “الجندي المزارع” مجرما أحمق.

2 شهير باسم يوسف، ولقد اشتهر هذا الهجين الصربي التركي بوحشيته.

[6] جان دريش عالم جغرافي فرنسي ولد في باريس في 30 نوفمبر 1905 وتوفي في باريس يوم 4 مارس 1994. ناضل هذا الجامعي بقوة ضد الاستعمار كمثقف مناهض للاستعمار في الخمسينات والستينات. (المصدر: وكيبيديا).

2 شارل أندري جوليان من مواليد 2 سبتمبر 1891 في كاين، وتوفي في 19 جويلية 1991 بباريس، هو مؤرخ وصحفي فرنسي مختص بشمال إفريقيا ومناضل مناهض للاستعمار. (المصدر: وكيبيديا).

3 ألفريد فرانسوا ناتمنت صحفي ومؤرخ، ولد بباريس في 21 أوت 1805 وتوفي في نفي المدينة بتاريخ 14 نوفمبر 1869. “الخراب الأخلاقي والفكري، تأملات في الفلسفة والتاريخ، 1836، المكتبة العالمية للشبيبة. (المصدر: وكيبيديا).

 [9] لويس هنري كونت دو غيدون، منة مواليد 22 نوفمبر 1809 في غرانفيل وتوفي في 1 ديسمبر 1886 في لاندرنو، وهو نائب أميرال فرنسي. كان أول حاكم عام للجزائر في عهد الجمهورية الثالثة. (المصدر: وكيبيديا).

2 نشأت حركو “الكومونة” في أعقاب انتفاضة الباريسيين يوم 18 مارس 1871. زج بأغلب أعضائها في السجون أونفي الآخرون. التقى المنفيون إلى كاليدونيا الجديدة بـ”قبائل المحيط الهادي” الذين نفيوا هم أيضا على إثر انتفاضات والأوراس وتونس وغيرها… (المصدر: وكيبيديا).

3 يعكس الاستسلام دون شروط والمثول أمام محكمة جنايات تتألف من معمرين الذي عرض على المقراني، مدى الاحتقار الذي كان يعامل به الجزائريون وإن كانوا من كبار الثوار. لكن المقرااني فضّل أن يموت في ساحة القتال.

[11]

1 ستيفان غزال من مواليد باريس في 7 فيفري 1864 وتوفي في باريس يوم 1 جانفي 1932، وهو عالم آثار ومؤرخ فرنسي مختص بالجزائر “الرومانية”. (المصدر: وكيبيديا).

2 يعتبر أهل التلات الأكثر الإقداما من بين الثوار.

3 عيّن جول كومبون حاكما عاما للجزائر عام 1887. المصدر: وكيبيديا).

 شارل ديغول، بحثا عن النصر العسكري

يعتبر يوم 13 ماي 1958، تاريخ الانقلاب الذي قام به اللوبي المتطرف الذي أعاد شارل ديغول إلى السلطة، قبل شيء يوم انتصار دعاة “حق التصرف”، والحرب الشاملة لإبادة القوات المسلحة الجزائرية. ففي رأي مدبّري المؤامرة، باستطاعة شارل ديغول، الذي يشيدون بشجاعته السياسية وبنظرته الحادة لمصالح فرنسا، أن يقوّي الجبهة الداخلية ويصلح الوضع العسكري.

تم الإعداد لمظاهرات ماي 1958، التي سميت “مظاهرات التآخي”، في صالونات قصر “تراب” على بعد خمسة عشر كيلومترا من الجزائر العاصمة. مهندساها هما العقيدين آرغو ولاشروا وآلان سيريني المكلّف بالدعاية، فيما تولى بورجو وبلاشير وشيافينو وآبو الشئون المالية. أما الحركى فقد أهينوا بالمناسبة ومنحوا دور الكومبارس في “الجزائر الفرنسية” المستفيدة سياسيا.

لم يقبل الجنرال ديغول أنه في ظرف عقدين قصيرين، تنهزم الجيوش الفرنسية ثلاث مرات. وبالإضافة إلى نكسة عام 1940، صفعة عام 1954 في الهند الصينية، لم يكن ليحتمل خزي واترلو جزائري على هيبة فرنسا وجيشها. فكان هزم حركة التمرد بالسلاح غاية تندرج ضمن رؤيته لعظمة بلاده. ولهذا كان يبدو له محو هزيمة ديان بيان فو بانتصار عسكري في الجزائر، حتمية معنوية وسياسية في آن واحد[1].

لإلحاق الهزيمة بجيش التحرير الوطني، كان شارل ديغول بحاجة لقائد عسكري أقل “روتينية” وأكثر تحررا وقادر على تجاوز كل المعتقدات والعادات الراسخة، ولقائد واقعي وجريئ في نفس الوقت، يستطيع أن يقوم بما لم يجرؤ عليه من سبقوه قط، وهو الخروج إلى الميدان لاقتفاء آثار وحدات جيش التحرير الوطني ثم تسخير كل الوسائل لتدميرها. فهكذا وقع اختياره على جنرال من سلاح الجو، هو الجنرال شال[2]، الذي جهّز الجيش الفرنسي لهجوم شامل.

قبل التحرّك، قام شال أولا بإصلاح قوات الاحتياط بإعادة هيكلة فرقتي المظليين العاشرة والخامسة والعشرين وكذا فرقة المشاة الحادية عشر، مع تجندي عدد كبير من عناصر الحركى.

قام بتعزيز دفاعات الحاجز الأول، وشرع في بناء خط ثان يحمل اسمه. إلى هذا الخط الذي يعبر قلب القاعدة الشرقية، أرسل الجزء الأكبر من قواته المتألفة من خمسة ألوية مشاة أجنبية (الأول والثاني والثالث والرابع والخامس) ، ولوائي مظليين و6 آلاف جندي موزعين على لواء المظليين الثاني، وعلى ثلاثة ألوية لمشاة البحرية (الأول والثاني والثالث). وأضاف إلى هذه لواء القناصة المظليين التاسع، وكتيبتي كوماندوس جويتين، ونصف سرية من مشاة البحرية ونصف السرية الثالثة عشر للفيف الأجنبي وعدة كتائب صحراوية من اللفيف المحمول.

وبالإضافة إلى الوحدات المنتشرة على الأرض (التي تضم عشرات الآلاف من الجنود)، كان يتوفر على 40 ألف رجل للتدخل السريع مدعومين بنسبة قوية من السريات المدرعة.

وكجنرال في الطيران، لم يهمل شال السلاح الذي يعرفه أكثر مما يعرف غيره، بل لقد أدى سلاح الجو دورا أساسيا في ترسانته الحربية.

يمتد خط “موريس” الذي شيّد ابتداء من جوان 1957، من البحر المتوسط إلى جنوب نقرين الجنوبي. وينشر تحصيناته بالتوازي مع الطريق عنابة- تبسة (شرق هذا الطريق). فهو يأخذ على مستوى تبسة شكل عقد يطوّق جبال النمامشة. بداية من عام 1959، تم تعزيزه بهذا الخط الثاني الذي كان الجنرال الكبير يعقد كل آماله عليه. ينطلق هذا الخط مباشرة غربا من مدينة القالة. يقترب أكثر من الحدود مع تونس. ويتقاطع مع خط موريس على مستوى سوق أهراس، ويندمج معه، ثم يبتعد عنه قبالة القرية التي تسمى غامبيلا وصولا الى تبسة و”يلحّم” أسلاكه الشائكة وحواجزه في أسلاك وحواجز العقد الذي يحيط بالنمامشة.

عندما يتباعد الإنجازان عن بعضها البعض، يشكّلان خطين متوازيين. الخط الأول، بما في ذلك الأراضي الممتدة بين الحواجز والحدود، يمثل مجال عمل الناحية الأولى التابعة للقاعدة الشرقية، التي أشرت إليها في هذا الكتاب، أما الثاني والمساخات التي تمتد بين هذا الخط والحدود التونسية، فتمثل مجال عمل الفيلق الثالث التابع للقاعدة الشرقية والناحيتين الخامسة والسادسة التابعتين للولاية الأولى. لم يمنع التواجد الكثيف جدا للقوات الفرنسية التي تعبر وسط القاعدة الشرقية جنودها البواسل من شن عملياتهم الحربية.

أعيدت هيكلة القيادة العسكرية حسب الأسلاك والنواحي والقطاعات. وبقي هذا التنظيم تقيبا على حاله إلى غاية الإعلان عن وقف إطلاق النار.

بعدما تم تهيئة كل هذه الواسائل، قام شال بإطلاق نصف مليون جندي على الجبال. وفي يوم 22 جويلية 1959، جنّدت عملية “جومال” أزيد من 20 ألف عسكري في منطقة القبائل. وهي العملية الأولى من سلسلة عمليات هجومية أطلقت عليها مسميات “نفيسة”[3]. مهمتها تمشيط جميع السلاسل الجبلية في الجزائر: القبئال، الونشريس، جبال سعيدة وفرندة وزكار والأطلس البليدي والحضنة ومرتفعات جيجل وشبه جزيرة القل وجبال إيدوغ والأوراس.

مع شال في القيادة، كان عام 1959 عام الآمال الجديدة للالاستراتيجيات السياسية والعسكرية الفرنسية. شهد سقوط رموز كبيرة من المقاومة: في يوم 28 مارس، استشهد عميروش والحواس، القائدان المرموقان للولاتين الثالثة والسادسة، في معركة مع قوات المظليين بقيادة الكولونيل دوكاس. علي حمبلي، الذي كان يحتل موقعا هاما على جانبي الحدود الجزائرية التونسية، سلّم نفسه في 21 مارس مع 156 من جنوده. كما تكبّد جيش التحرير الوطني خسائر كبيرة على الحواجز الحدودية بما في ذلك على الذي شيّد في الحدود الغربية.

أحرزت القوات العسكرية بقيادة شال، والتي لعبت فيها قوات التدخل السريع دورا أساسيا، انتصارات أكيدة. وهذا ما شجع ديغول ليصرّح يوم 16 أفريل من ذلك العام قائلا: “أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك حل عسكري للقضية الجزائرية، لأن الحواجز الحدودية تؤدي دورها وأنه من الممكن التخلص بسرعة من الخصم”!…

[1]  أراد شارل ديغول أن يعطي معنى لقتال قواتهن فبدأ بالتأكيد على استحالة الفصل بين الجزائر وفرنسا. في يوم 6 جوان 1958 في وهران، قال: “الجزائر هي عضويا أرض فرنسية اليوم وأبدا”.

في 23 أكتوبر 1958 اقترح “سلم الشجعان” وهذا يعني الراية البيضاء والاستسلام. يوم 8 جانفي 1959، يوم توليه منصبه كرئيس للجمهورية، تكلم عن جزائر “مرتبطة ارتباطا وثيقا فرنسا”.

1 شال قائدا عاما من ديسمبر 1958 إلى مارس 1960.

 [3]  “الحزام” Courroie، “الشرارات” Etincelles ، “الأحجار الكريمة” Pierres précieuses، “فيروز” Turquoise “الزمرد” Emeraude و”توباز” Topaze.

مقدّمة للباب الثالث

من الجزء الأوّل من مذكراتي

في هذا الباب الثالث من الكتاب، سأتحدث عن أزمة صيف 1962 وصراعاته حول السلطة وعواقبها. وأقولها مرة أخرى إننّي لا أدعّي على نفسي القيام بعمل المؤرخ. فلقد ترك العديد من صنّاع تلك الأحداث التي وقعت غداة الاستقلال مذكرّات، كما تناول الكثير من الكتّاب والمؤلفين هذا الموضوع، واهتم به مؤرخون أفذاذ. فأنا لا أريد نقل شهادتهم في نقطة أو في أخرى، ولا تصحيح ما ذكروه. كل ما أريد هو أن أدلي بشهادتي كعضو من أعضاء جيش التحرير الوطني والتعبير عن مشاعري ومشاعر رفاقي خلال تلك الأيام المشحونة بالآلام والمآسي لمّا وقف قسم من ثوار حرب التحرير في وجه قسم آخر وعارضه بالسلاح.

أحكي كيف أن الجزائر، التي ما إن تحررت من قيود الاستعمار حتى وجدت نفسها مضطرة، في أكتوبر عام 1963، لمواجهة المخططات العدوانية للمملكة المغربية، وأصف الحماس الوطني الاستثنائي الذي عبّر عنه المواطنون في تلك الأيام. حاولت أن ألخص بأوضح العبارات الممكنة، أوضاعا معقدة مثل الأحداث التي اندلعت في منطقة القبائل، لمّا قرر زعيم تاريخي في سبتمبر 1963 الانتقال من الاحتجاج السياسي إلى المعارضة المسلحة، وجرّ معه في مغامرته الكثير من المجاهدين، وكذلك عندما أدّى اختلاف في الرؤية وفي التحليل، مع ما ينجر عن ذلك من صدمات عاطفية ومغامرات، بالعقيدين محمد شعباني والطاهر زبيري، الأول قائد الولاية السادسة والثاني قائد أركان الجيش الشعبي الوطني، إلى التمرد العسكري أملا في تحويل مجرى الأمور الذي لم يرق لهم. في اللوحة التي أرسمها عن هاتين القضيتين، حرصت على أن أتحدث عن أبطال هذه الأحداث بتبجيل واحترام، بالنظر إلى ماضيهم وما ضحّوا به من أجل مبادئهم مواقفهم. سأتحدث من الحقبة التي حكم فيها أحمد بن بلة ونتائجها المنطقية. فلقد شهدت وشاركت غصبا عنّي في آخر أيام القائد الثوري المتحمس والأهوج الذي فعل كل ما يمكن أن يفعله رجل سياسي للتعجيل بالعاقبة المؤسفة التي رسمتها سياسته منذ زمن طويل.

وفي نفس الجزء من الكتاب، سأتحدث عن الجيش الجزائري وتحوّله الصعب من جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، وكذلك عن الرجال الذين أتموا هذه المهمة. وعندما أعطي رأيي في هواري بومدين، كشخصية يصعب حصرها وجذابة وفي نفس الوقت مخيفة ومحيّرة، أسرد حقائق وتفاصيل تدعّم وجهتي النظر الأولى والثانية. كقائد أركان جيش التحرير الوطني خلال السنوات الأخيرة من الحرب، وكوزير للدفاع بعد الاستقلال، فعل الكثير لبناء جيش وطني غني بالتنوع البشري الذي يزخر به شعبنا، وأنا من بين الذين يحق لهم القول بأن الجيش الوطني، ولأنه بُني على هذه الأسس الصحيحة التي كان فيها لهواري بومدين إسهام كبير، ظل واقفا على الرغم من الاستراتيجيات والوسائل المستعملة لإسقاطه أو لتحريفه عن مبادئه. وهذا لا يمنعني من الحديث عن أوجه الضعف والحسابات الأنانية والتصورات الاقتصادية غير الواقعية التي فرضها هواري بومدين: أخطاء في التخطيط قادت خطاه على طريق مسدود عنوانه التأميم القسري للأراضي والتصنيع المفرط. كرئيس للبلد، شيّد دولة لم تزَل بزواله. ولتحقيق الخيارات الكبرى التي أقرّها رجال الثورة خلال حرب التحرير، استخدم كل إمكانيات هذه الدولة وبإفراط ملحوظ، كما لو أنه أحس بقرب نهايته. ولا تزال هذه الدولة مستمرة ولم تفرّط بقيد أنملة من سيادتها في الوقت الذي رأينا طبقة سياسية، بعد عقود من رحيل المؤسس، غارقة في الانتهازية أو راضية بأن يأتي من يدعّون بالدين ليهددوا الأساس الذي تقوم عليه الجمهورية.

إننّي إذ أدعو القارئ الشاب، في عدد من الصفحات، ليتبعني إلى ضفاف قناة السويس، قصدت أن أثير الإحساس بالفخر والاعتزاز في نفسه، لأن جيش آبائه وأجداده أثبت أمام جيش “تساحال” الذي طالما اشتهر اسمه، قدرته التكتيكية وشجاعة رجاله.

قادني مشواري العسكري، في السبعينات والثمانينات، للعمل لسنوات عديدة في الجنوب الجزائري. وكانت فترة “تندوف” غنية بالتجارب الرائعة والدروس المفيدة، وكانت أغنى بالاحتكاك الذي أتيح لي برجال اعتبرهم مثالا في الإخلاص والشجاعة. أحيانا يستميلني حب التفاصيل، فأستعيد حكايات وطرائف من الحياة اليومية، كلما شعرت بأنها قد تفيدني في وصف الأحاسيس التي يحس بها الجنود الذين عاشوا تلك الأيام الصعبة بعيدين عن ذويهم وأحبّتهم وفي تلك الظروف القاسية التي يؤدون فيها واجبهم الوطني.

ثم إننّي أذكر كثيرا الشاذلي بن جديد. في الجزء الثاني من هذه المذكرات، أبدو قاسيا في حكمي على الرجل السياسي بن جديد لأن حساباته الأنانية وتخطيطاته العشوائية كانت كثيرة جدا ومدمّرة للبلد. لكننّي لم أغفل عن ذكر أخلاقيات الجندي التي يتميّز بها. فعندما يستولي التردد على النفوس، يمرر مصلحة الجيش قبل مخاوفه وتوجسّاته. كان واعيا بالبيئة الجيوسياسية الخاصة التي كانت سائدة في مرحلة من المراحل. ويعرف في مجال الدفاع الوطني، كيف يتخذ القرارات الصائبة التي سمحت لنا فيما بعد بمواجهة موجة التخريب والإرهاب. إليه يعود الفضل في إنشاء هيئة الأركان العامة التي اندثرت من التنظيم الهيكلي لوزارة الدفاع الوطني بعد فشلها في عهد الطاهر زبيري. وهو أيضا من قام بإعادة الهيكلة، وفقا للمخطط الذي أعدّه محترفون لديهم نظرة شاملة عن أدوات التجديد والتحديث: تمفصل الجيش بين وحدات قتالية كبيرة، تكييّف الموارد البشرية، تخصيص المعدات والوقت الضروري لإعداد كل مرافق الجيش وضمان جهوزيته بسرعة. ظل تحسين الظروف المعيشية لأفراد الجيش، بعد ما يقرب من عقدين من الحياة الضنكى، انشغالا دائما عند بن جديد. أما هواري بومدين، فكانت لديه أولويات أخرى غير راحة عناصر الجيش. فكان في ذهن القائد السابق لهيئة الأركان العامة – وهو حكم غير جائر- إن الذين عانوا من قسوة الحياة في الجبال يجب أن يكتفوا بالهواء المنعش والمياه العذبة وبالحرية. ولقد قام بن جديد بترقية الجنود على أساس الجدارة ولم يكترث أبدا بالروابط الجهوية ولم يراع الحسابات السياسية التي تجعل من الولاء الشرط الأساسي لترقية الإطارات، أو لتوزيع المناصب “المغرية”. ولم يشجع الفساد ولم يسمح به أبدا لضمان بقائه السياسي. وما قصة بلوصيف إلا دليل على ابتعاد بن جديد عن كل أشكال المحاباة أو التحايل. وفي وقت لاحق، رفض تفكيك القيادة العليا للجيش كما طالبته به الجبهة الإسلامية للإنقاذ لما كانت في أوج غطرستها. إن اتساع نطاق الموضوع يمنعني من التحدث باستفاضة عن كل الطفرات والتحوّلات التي عرفها الجيش الجزائري، بالشكل الذي أرغب. رجائي أن تلهم شهادتي غيري من الرفاق، وتحثّهم على سد الثغرات التي قد لا تخلو منها هذه الشهادة، حتى تكتمل كتابة تاريخ الجيش الوطني الشعبي ويتم ذلك بعمق ودقة. لأن تاريخ الجيش الجزائري لم يتوقف مع رحيل اللواء نزار.

تواطؤ الفرنسيين في قضية الصحراء الغربية

بعد احتلال الصحراء الغربية والتصريحات المنسوبة لجهات مغربية ولم تكذّب[1]، تدعو للطعن في اتفاقيات ترسيم الحدود المبرمة عام 1972، أدرك هواري بومدين بأن الجزائر في مرحلة خطر ويجب تركيز الجهود على وسائلنا الدفاعية. مع قضية امڤالة، أدرك فجأة بأن الجيش ليس فقط مدراء مركزيين يؤدون دور رؤساء مكاتب ويعملون تحت إشراف أمين عام حريص على عدم إلقاء أي ظل على “المعلّم”، وقادة نواحي طيبين غارقين في روتينهم اليومي وحفنة من الضباط المحترفين لا سلطة لهم ولا إمكانيات. عندما استدعاني من المدرسة الحربية بباريس، في أوج الأزمة مع المغرب، ليطلب مني الذهاب إلى تندوف من أجل تقييم الوضع وصياغة مقترحات، كان على استعداد للنظر عن كثب ي النقائص التي يعاني منها الجيش الوطني الشعبي وللبحث عن علاج لها. بعد عدة أسابيع من وجودي في الميدان، تخللتها العديد من الزيارات إلى الوحدات المتناثرة على الهضبة، عدت لأقدّم له عرضا استمع إليه بأذن صاغية. وفي التقرير الكتابي الذي سلّمته إياه، والذي أعددته وأتممته بالتشاور مع الضباط المتواجدين في الميدان، كنت مصرّا على حاجة الجيش للتموين والتأطير والتدريب والتنظيم، حتى يؤدي مهامه على أحين ما يرام. وعلى الرجال الذين يشكّلون هذا الجيش أن تتاح لهم وسائل الراحة التي تساعدهم على تحمل الظروف الشاقة التي يتميز بها الجنوب الكبير.

في هذا الجزء من الكتاب، أشرح كيف أنجزت الخبرة المطلوبة منّي، واستعرض إنجازاتي ي في قطاع العمليات لجنوب تندوف التابعة للناحية العسكرية الثالثة، في الفترة ما بين سنة 1976 وسنة 1979، ثم على رأس نفس تلك الناحية من عام 1979 وحتى عام 1982. حوّل الضباط وضباط الصف والجنود بقعة مربعة الشكل تفحّمت تحت الشمس والرياح الرملية، إلى ميدان ضخم للتدريبات والمناورات ساعدهم على تحويل جيشهم إلى أداة عصرية وفعّالة. إن الإنجازات التي صنعها هؤلاء الرفاق الشجعان والمتفانون جديرة فعلا بأن تُذكر حتى يعرفها الجيل الجديد.

كانت هضبة تندوف، خاصة في السبعينات والثمانينات، تشكل محطة هامة في تحوّل هيكل الجيش الوطني الشعبي وتغير ملامحه الخارجية. ذلك أن الإقامة في الناحية العسكرية الثالثة، من خلال التناوب العادي للوحدات وتعييّنات شباب الخدمة الوطنية، كانت أكثر من حضور بدني في منطقة جديدة من مناطق البلاد، وإنما غوص في أعمق أعماق الوطن. فهذا الجنوب الذي ذهبوا للتدرب والحراسة فيه، صقلت الصورة التي تكوّنت لديهم عن امتداد بلادهم وتعدد مناخاتها وتضاريسها وتنوّع عاداتها وتقاليدها.

في هذه الصفحات، أشيد بالدور الذي اضطلع به الشاذلي بن جديد، بعد توليه رئاسة الجمهورية، في عملية تحوّل الجيش وفي تجهيزه بالمعدّات الحديثة.

قد يتفاجأ القارئ لمّا يسمعني أقول كلاما جميلا عن بن جديد، بعدما قلت عنه في نصوص أخرى، كلاما قاسيا. لكن دعونا نضع كل شيء في نصابه. يعتبر الشاذلي من أبناء الجيش، ولهذا كان يعرف عيوبه ونقائصه. ولم يكن لديه خلاف شخصي مع أيّ إطار من إطارات المؤسسة[2]. لم يكن لبن جديد نفس الحواجز النفسية ونفس الهواجس التي كانت تسكن سابقه. فعمليات التنظيم والتكوين والتجهيز والتحديث التي بدأت ببطء في الستينات والسبعينات، شهدت وتيرة متسارعة وأكثر عمقا في الثمانينات.

أدركتُ أثناء تأليف هذا الجزء من ذكرياتي، أنّه كان علّي أن استعرض مسيرتي ضمن سياق سياسي أوسع وأشمل مع احترام خطيّتها. فلا يسع لي أن أحصر شهادتي في الجانب العسكري الذي قد لن يهمّ في هذه الحالة سوى عدد قليل من الناس. فكان عليّ إذن أن أتطرق إلى ما هو أبعد من ذلك. كنت خلال مسيرتي شاهدا على أفعال وقرارات كان لها أثرٌ جلي على الحياة الوطنية وعلى الجيش، وأحدثت ديناميكيات ودفعت أحيانا الجيش لتخطي الجلمود الصخري المحيط بثكناتها.

سأتطرق من ضمن النقاط التي ستأتناولها، إلى الأيام المشهودة التي قامت فيها حفنة من “صنّاع القرار” العسكريين ومن غير تفويض من أقرانهم، بفرض الأمر الواقع وتنصيب “أقدم عسكري في أعلى رتبة” على رأس الجيش والبلد. وسأشرح بعد ذلك لماذا كان ذلك ممكنا، وكيف تم ذلك.

سأتحدث عن العمل السياسي الذي قام به الشاذلي بن جديد بعدما ورث دولة كانت سائرة في نمو متسارع، وفشل في مواصلة جهود سلفه، إلى أن بدأ شبح الاحتجاجات يخيّم على شوارع مدننا وقرانا.

لقد تناولت معظم هذه المسائل في كتابي: “محاكمة باريس. الجيش الجزائري في مواجهة التضليل”. رجعت إليها وأعدت صياغتها وحصرها في الإطار الخاص بهذا الكتاب. كان بوسعي أن أخصصّها للشق السياسي من مسيرتي، أي للكتاب الثاني من مذكراتي. لكن بعد تفكير، ارتأيت أن استحضرها هنا، لأنهّا تسلّط الضوء على مرحلة حاسمة اضطر فيها الجيش، بسبب فشل الحكاّم وأعمال الشغب العبثية، للتخلي عن دوره التقليدي من أجل خير هذا البلد، وربما ليس لخير قادته.

إن الصفحات التي أفردها لهذه الأحداث هي مراجعة مختصرة وضرورية لفهم الكيفية التي سارت بها الأمور.

خالد نزار

1]  هناك خرائط عن “المغرب الكبير” تظهر عليها الأقاليم التي يدعي الحسن الثاني انتسابها إلى بلده، تملأ جدران الأقسام في مدارس المملكة. ويبدو جزء كبير من الصحراء الجزائرية تحت الألوان العلوية. ولقد خاض حزب الاستقلال حملات متتالية من أجل تجسيد هذا “المغرب الكبير” على أرض الواقع.

[2]  أمر بإطلاق سراح أعضاء سابقين في الجيش الوطني الشعبي سبق وأن أدانتهم المحاكم الخاصة التي أنشأها هواري بومدين، ووضع حد لنفي المعارضين السياسيين، واستعاد رفات المجاهدين الذين أعدمتهم “الثورة” ودفنوا في تونس والمغرب. ورد الاعتبار لكبار قادة الثورة الذين اغتيلوا بعد الاستقلال، وأمر بإطلاق اسماءهم على  شوارع كبرى وجامعات، ومن بينهم كريم بلقاسم ومحمد خيضر.

هذه المذكرات ليست مجرد تجميع لما ألّفه اللواء خالد نزار. بل إنّها تضيف عليه توضيحات وإضاءات جديدة على الأحداث وعلى صنّاعها، وتصحّح العديد من المغالطات الشائعة وتجري مسحا واسعا على الأحداث الكبرى التي كان فاعلا فيها أو شاهدا عليها.

ولا يدعي المؤلف بتاتا الاضطلاع بدور المؤرخ وإنما يدلي بشهادته كعضو في جيش التحرير الوطني، ويروي كيف اضطرت الجزائر، فور نيلها للاستقلال مباشرة، لمواجهة المخططات العدوانية للمملكة المغربية في أكتوبر 1963 والحماس الوطني الفيّاض الذي عبّر عنه المواطنون بتلك المناسبة، ويلخص أوضاعا معقدة مثل الأحداث التي عرفتها منطقة القبائل، والرؤى المختلفة التي دفعت بالعقيدين شعباني وزبيري لمحاولة قلب مجرى الأمور عن طريق التمرد العسكري، وفترة حكم أحمد بن بلة، ويحدثّنا عن بومدين وأولوياته، وعن بن جديد ومسؤولياته وأيضا مزاياه.

كما يدعو المؤلف القارئ الشاب إلى مرافقته إلى حدود قناة السويس في مصر، ليثير في نفسه الفخر والإباء لأن أسلافه برهنوا أمام الجيش الإسرائيلي المشهور عالميا على قدراتهم التكتيكية وشجاعتهم.

يعرج الجزء الأول من مذكرات اللواء خالد نزار على الفترة الحاسمة التي خرج فيها الجيش مكرها ومرغما، أمام إفلاس الحكّام وأعمال الشغب العبثية، عن دورها التقليدي لإنقاذ البلاد. تمثّل الصفحات التي يفردها المؤلف لهذه الوقائع عرضا موجزا وضروريا سيناقش بالتفصيل في الجزء الثاني، لفهم مجريات الأحداث.

نعم لدعم ليبيا. لا للتدخل في النزاع التشادي!

حرب التويوتا (1986-1987)

في صيف عام 1973، احتلت ليبيا عسكريا قطاع أوزو في الأراضي التشادية، التي تطالب بملكيتها. أعلن القذافي ضم قطاع أوزو ثم ألحقها إداريا بمحافظة الكفرة. كما تدخل القذافي في الحرب الأهلية التشادية، آخذا تحت جناحه غوكوني عويدي المعارض لحسين حبري الذي كان يتمتع في ذلك الوقت بحماية فرنسا والولايات المتحدة. وتلى ذلك حرب القادة التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن. لم يزد التدخل الأجنبي، في شتى أشكاله، سوى من حدة الصراع.

في عام 1976، شنّت القوات الليبية عمليات توغل في وسط التشاد مع قوات “فرولينا” الموالية لغوكوني عويدي. أصبحت كل العاصمة نجامينا مهددة. واندحرت القوات التابعة لحبري.

بعد فشل مشروع الوحدة التشادية الليبية التي انضم إليها عويدي، انسحبت وحدات القذافي من قطاع أوزو وحلّت محلها قوات تابعة للاتحاد الإفريقي.

وفي يوم 21 جوان 1983، قام ميليشيات تابعة لحكومة الائتلاف الوطني الانتقالي، الموالية لعويدي، باستباق قوات ليبية كبيرة، لعبور الحدود التشادية، متوجهة إلى نجامينا، عاصمة دولة مزقتها عشرون سنة من الحرب الأهلية. و”تلبية لنداء حسين حبري”، تدخل الفرنسيون لوضع حد لتغلغل القذافي في إفريقيا.

انطلقت عملية “مانتا” في 10 أوت 1983 بإرسال فرقة متكوّنة من 314 مظليا إلى نجامينا، تم تعزيزها بعد شهرين لتصل إلى 3 آلاف عسكري. ويدعم هذا الفيلق حوالي عشرين طائرة هليكوبتر وثلاثين طائرة من القوات الجوية والطيران البحري الفرنسي. كما دعمت العملية عناصر من المساعدة التنفيذية في جمهورية إفريقيا الوسطى حيث أقيمت القاعدة الخلفية.

ولقد دفعت الجماهيرية الليبية ثمن المغامرة العدوانية لزعيمها غاليا.

“حرب التويوتا” هو الاسم الذي أعطي للمرحلة الأخيرة من النزاع بين عامي 1986 و1987 في شمال التشاد على الحدود مع ليبيا. استخدم التشاديون سيارات تويوتا المسلحة كوسيلة للنقل وفي غزوات حربية. وفي مارس 1987، قام التشاديون، بمساعدة جهاز التدخل التابع للمديرية العامة للاستخبارات الفرنسية على أرض والمعلومات التي تمدها كل من المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إي) والموساد، باقتحام واحتلال القاعدة الليبية في وادي دوم الواقعة في قطاع أوزو، التي كانت مع ذلك محمية بحقول الألغام والدبابات والمركبات المدرعة وآلاف الجنود. وأدى سقوط القاعدة الليبية الرئيسية في المنطقة إلى وقف مخططات “القائد” الحربية.

في أوائل عام 1987، كلّفني الرئيس الشاذلي بمهمة لدى العقيد القذافي الذي كان خائفا من زحف التشاديين نحو الشمال، فطلب مساعدة عسكرية عاجلة، دون أن يحدد في أي شكل يتصورها ويريدها. رسمنا الملامح التي يمكن أن تتخذها، فعرضنا إرسال وحدات جزائرية لاتخاذ مواقعها في شمال ليبيا حتى تتمكن القوات الليبية الاحتياطية من الدفاع عن حدود بلدها في الجنوب.

وهكذا، جهّزتُ ملفا كاملا يتضمن المعدات التي يمكن نقلها إلى جيراننا، وذهبت إلى طرابلس لإبلاغ العقيد القذافي بمقترحات رئيس الجمهورية.

رافقني العقيد العماري محمد قائد العمليات. استقبلنا العقيد القذافي في خيمته في العزيزية. وفي مدخل حديثنا أعلن قبوله بمقترحات الرئيس الشاذلي.

استقلت الطائرة عائدا إلى الجزائر العاصمة، تاركا العقيد العماري في عين المكان لبحث الترتيبات العملية الخاصة بتنصيب قواتنا في ليبيا. مع العلم أننا لن نتحرك تحت أي ظرف من الظروف ضد التشاديين خارج ليبيا. وأفهمنا المعنيين بذلك.

بعد حوالي عشرة أيام، أتم العقيد العماري إعداد “الملف”. بقيت هناك نقطة لا يمكن حلّها إلاّ بعد أخذ رأي “القائد الأعلى” فيها. وتتعلق بالذخيرة التي تزوّد بها الوحدات المراد نقلها. لم يتأخر الرد كثيرا: “يجب أن تأتي الوحدات الجزائرية دون ذخائر! ستزوّد في عين المكان بالذخائر التدريبية على أن تبرر بتسليم الأعيرة الفارغة”.

لم نتمالك أنفسنا من شدة الدهشة. تُرسل قوات إلى بلد في حالة حرب من دون ذخيرة! شككنا فعلا في التوازن العقلي للذي يجرؤ على تخيل مثل هذه الحماقة.

رئيس الجمهورية نفسه، عندما أبلغ، اندهش. وهكذا ألقي الطلب الليبي في سلة المهملات.

كانت هذه المرة الأولى التي أتعامل فيها مع الليبيين. المرة الثانية عندما طلب مني قائد الأركان، اللواء عبد الله بلهوشات، استقبال وفد عسكري برئاسة عقيد يقود القوات البرية. استقبلته رفقة اللواء عبد الحميد جوادي رئيس مكتب في هيئة الأركان العامة.

جاءت هذه “السفارة” العسكرية لتقترح علينا الاندماج مع ليبيا. “لقد جئنا بورقة بيضاء، لكم أنتم أن تدوّنوا عليها شروطكم.” جاء هذا العرض المقدّم للجزائر بعد عدة محاولات ليبية، كلها أجهضت، لعقد الوحدة مع جيرانها (مع مصر في عام 1973، مع تونس في عام 1974، مع الجزائر في عام 1975، والتشاد في عام 1977 ومرة أخرى مع الجزائر في عام 1987).

في يوم 5 سبتمبر 1987، أثناء إقامة هذا الوفد في الجزائر، شن التشاديون هجوما مفاجئا على القاعدة الجوية الليبية في “معاتن السرة”. قتل مئات من الجنود، واعتقل مئات آخرون، فيما اضطر آخرون للفرار إلى الصحراء. أعلن التشاديون عن تدمير 32 طائرة، معظمها من طراز “أل 39” التشيكوسلوفاكية، وعدد من طائرات “ميغ” ومروحيات. كما اغتنمت كميات من العتاد: رادارات، وصواريخ مضادة للطيران “سام 3″، ودبابات وآليات مدرعة، ومركبات نقل ومجموع الأسلحة المتواجدة في القاعدة.

في يوم سفره، قام الوفد بزيارة عبد الله بلهوشات. وردا على سؤال حول مصير القاعدة، قال رئيس الوفد: “لم تتلق أضرارا كبيرة. التعزيزات موجودة في عين المكان، والقاعدة تسير سيرا عاديا”. لم يكن بلهوشات ملّحا في كلامه. وبطبيعة الحال، كنّا جميعا نعرف أن ذلك ليس صحيحا. فهل كان هذا العقيد يتكلم بنية حسنة أم أنه يريد إخفاء الحقيقة عنّا؟

في جنان الميثاق، أخذته جانبا وأخبرته عن حقيقة ما حدث في قاعدة معاتن السرة. أخرجت من جيبي قائمة المعدات التي اغتنمها التشاديون وسلّمتها إياه. قلت له: “كل هذه المعدات سوف تباع في المزاد، ونحن مستعدون لشرائها لكم. نحن في انتظار موافقتكم! “. لم يأت رد  لا منه ولا من قبل هيئته القيادية.

علّمتنا مغامرات القذافي التشادية كثيرا عن الخسائر التي يمكن أن يسبّبها رجل لشعبه ولرؤاه هو شخصيا عندما تكون بين يديه السلطة المطلقة.

رابط دائم : https://nhar.tv/sJJkz
إعــــلانات
إعــــلانات